دولة القانون في الدستور السوري 1/3
الإصدار الأول 03/03/2018
دولة القانون في الدستور السوري 1/3
المحامي فائق حويجة- مركز المواطنة المتساوية
(ملاحظة: نُشرت هذه المادة كاملة في دورية تبين، العدد 4 ربيع 2013)
(1)
يمثل الدستور جماع تطور الفكر القانوني العالمي فيما يتعلق بنظام الحكم والدولة، كما أنه يعبر عن المدى الذي وصل إليه احترام حريات وحقوق المواطنين في الدول، إضافةً لمحاولته حماية الأفراد من استبداد السلطات الحاكمة وتغوِّلها، وذلك عبر توزيع السلطات، وبيان اختصاصاتها، بما يضمن حفظ الدولة، عبر حفظ توازناتها الداخلية، من جهة، وعبر حفظ الحقوق الأساسية المقررة للأفراد، ضمانة هذا التوازن وعمقه الأساسي، من جهة ثانية.
ولا تقتصر مهمة الدستور والمبادئ الدستورية على تقرير الحالة القائمة في البلاد، بل إنه يضمر العمل على إرساء هذه المبادئ والقواعد الدستورية في المستقبل، إن لم تكن قائمة عند وضعه، وبهذا الفهم يمكن النظر إلى الدستور على أنه عقد اجتماعي تتوافق عليه الأمة أو برنامج عمل تطمح إلى تحقيقه في المستقبل، أو أنها ــ بإرادتها الحرة ــ تتعهد بالمسير وفق هديه. وبذلك فإن الأمة تجعل من الدستور ــ وفق هذا المنظور ــ أداةً للتقدم الاجتماعي والتطور الإنساني. هذا الأمر الذي لا يمكن للدستور القيام به، إن لم يكن مشروعاً مُجمعاً عليه من مختلف مكونات الأمة، ولكي تتحقق هذه الشرعية الدستورية، لابد للدستور من تحقيق الشروط التالية:
أولاً: الدستور المشروع هو الذي يقوم بوظيفة المعيار القانوني الأعلى، الذي يفرض منهجاً يعتمده المجتمع في تشريع وفي ترجمة وفي تحديد شروط تطبيق قوانينه، وبذلك فلا يمكن اعتبار أي قانون مشروعاً إذا ما انتهك روح هذه الشروط أو حرفيتها.
ولكي يقوم الدستور بوظيفته كمعيار قانوني أعلى في المجتمع، يجب أن يكون عادلاً، أي يجب أن يكون مبنياً على أساس [... المواطنة الكاملة المتساوية، والتسليم بأن الشعب هو مصدر السلطات، وأنه لا سيادة لفرد أو قلة عليه...].
ثانياً: الدستور المشروع هو الذي يعبر عن الإرادة أو الروح العامة للشعب، وهو الذي يتم فيه التأكيد الواضح على الحقوق والحريات.
إذا كانت الحرية هي الشرط الأساس للكرامة الإنسانية، وإذا كانت الحرية هي الهدف الأسمى للدولة، وفق المبدأ الذي أتى به مونتسكيو أولاً، واعتنقه روسو وهيجل، فيما بعد؛ فإنه، ولكي يستطيع الشعب تحقيق هذه الحرية، يجب أن يحكم نفسه عن طريق القوانين الصادرة عن إرادته، والمعبرة عن مصلحته.
باختصار، فإن الدستور المشروع ــ من هذه الزاوية ــ هو الدستور الذي يحمي حقوق المواطنين، لأنه لا يمكن القيام بأي عملية تقدم اجتماعي دون هذه الحريات، فالإنسان الذي لا حقوق لديه، لا يمكنه أن يحكم نفسه، وبالتالي فهو يصبح مجرد "شيء"، كونه لا يشعر ولا يفكر ولا يقوم بأفعاله بإرادته، بل وفقاً لإرادة شخص آخر، أو سلطة خارجية، لذلك توجب على الدستور المشروع أن يقوم بالتأكيد على حقوق الإنسان، وأن يضع الضمانات لخدمة هذه الحقوق، خصوصاً تلك الحريات الفردية والجماعية المتعلقة: بالضمير والاعتقاد والرأي والسرية والملكية والتجمع والتنقل والتصويت والسلامة.... إلخ.
ثالثاً: الدستور المشروع هو الذي يعترف بحكم القانون ويحترم فصل السلطات،فالدولة الحديثة هي دولة ديمقراطية، والدولة الديمقراطية هي دولة يحكمها القانون لا الإرادة الإنسانية. والقانون لا يحكم من تلقاء ذاته، بل إنه يعمل بواسطة السلطات الموجودة في الدولة، هذه السلطات التي أجمعت الآراء الفقهية منذ "مونتسكيو" على تقسيمها وفصلها إلى ثلاث سلطات:
السلطة التشريعية المسؤولة عن سن القوانين.
والسلطة القضائية المسؤولة عن تفسير القوانين وتطبيقها.
والسلطة التنفيذية المسؤولة عن تنفيذ القوانين.
وذلك بهدف منع احتمال إساءة استعمال السلطة أو اغتصابها، من قبل فرد أو جماعة، للدرجة التي يقرر فيها قادة الثورة الفرنسية في دستور 1791 أن: [... كل مجتمع لا يتوفر على ضمانات للحريات، وفصل السلطات، هو مجتمع بدون دستور...].
لقد اعتبر مبدأ فصل السلطات، مبدأ دستورياً موجهاً للحد من الاستبداد، وضماناً للحرية، وهو يهدف في الواقع إلى ضبط التوازن داخل الدولة، من جهة، وفي علاقتها مع المجتمع، من جهة أخرى.
أخيراً، يجب التأكيد على فكرة "مونتسكيو" والتي تقول أنه رغم وجود ثلاث سلطات تستقل كل منها في مجالها الخاص فإن [... كل ممارس للسلطة ميال بطبعه إلى سوء استعمالها...] لذلك يتوجب تحديد السلطة بالسلطة، بمعنى أنه وإن تمتعت كل سلطة بـ "قدرة البت": أي حقها المطلق في ممارسة الصلاحيات التي تدخل أصلاً في نطاق اختصاصها، فإن السلطات الثلاث تتمتع أيضاً بـ "قدرة المنع": أي صلاحية قيام كل واحدة بمراقبة الأخرى بشكلٍ يحتم على كل واحدة الالتزام بدائرة الاختصاصات المسموح لها بممارستها، ولا يمكن ضمان فاعلية الفصل بين السلطات إلا من خلال الرقابة القضائية لأعمال الإدارة، التي لا يغني عنها لا الإشراف البرلماني ولا الإشراف الرئاسي، وفي هذا كان إحداث الإشراف القضائي، هو فعلاً التجديد الذي أصبح عنصراً أساسياً في (دولة القانون) كي يمكن لها أن تحقق رسالتها... وقد اعتبر الفقه الإداري الحديث أن مقياس تقدم نظام دولة القانون ]هو ما تبلغه من توفيق في الملاءمة بين الحقوق الفردية والسلطات الحكومية، وأن يكون لأحكام السلطة القضائية في هذا الموضوع احترامه وقوته التنفيذية الكاملة. وأكثر من ذلك، فإن سمو القانون على الإدارة، تطبيقاً وممارسةً، هو أمرٌ مقررٌ، وفق نظرية "دولة القانون" [... فالدولة لا تكتفي بالامتناع عن التدخل بشكلٍ مخالف للقانون، بل هي مجبرة على التصرف وفق قواعده وأحكامه (أي أنها مجبرة على) احترام الشرعية القانونية....].
إن الوسيلة الأساسية لحماية دولة القانون وضمان تحققها، هي الرقابة القضائية، خصوصاً ما يتعلق منها باستقلالية القضاء الإداري الذي من شانه صيانة دولة القانون وفرض احترامها.
كما لا يمكن التقليل من الأهمية الفائقة لمراقبة دستورية القوانين كشرط ضروري لدولة القانون، بدونها يصبح الدستور، دون معنى، وتصبح قيمته رمزية فقط. لذلك نرى أنه في معظم النظم الديمقراطية، أصبح للقضاء الدستوري مكانة مركزية، بسبب الضمانات التي يقدمها في حماية الحقوق والحريات، إضافةً لتأثيره الواضح في ضبط النظم السياسية.
وبذلك يمكن القول أن ديمقراطية الدساتير لا تقاس بمدى إقرارها للحقوق والحريات فحسب، بل بدرجة حرصها على تأكيد الشرعية الدستورية، أي جعل ما هو مدرج في باب الحقوق والحريات محترماً على صعيد التطبيق والممارسة...
رابعاً: الدستور المشروع، هو بنظر جميع فئات الشعب، قانون دائم، ولكي يقوم الدستور بمهمته كرافعة للتقدم الاجتماعي، يجب أن يعبر عن مجموع إرادة الشعب، لذلك يجب أن يتضمن أنه موضوع ليس لخدمة الجيل الحالي فقط، بل وأيضاً، لخدمة الأجيال القادمة لأنه يمثل التراث الحضاري المتروك من الأجيال الماضية والحاضرة للأجيال القادمة.
وهذا لا يعني إلغاء إمكانية تعديل الدستور في هذه النقطة أو تلك، أو نقضه بالكامل، تبعاً لتغير ظروف الحياة التي هي في تغير مستمر، بل إن المقصود من ذلك، هو أن تغيير البنية الكلية للدستور، المعبّر عن جماع إرادة الشعب والموضوع بآليات ديمقراطية ــ شعبية، مقرَّة يجب أن لا تكون ميسَّرة في كل وقت، لأن انتهاكه في كل وقت هو انتهاك لصفته التعاقدية كونه من حيث الأساس هو: تعاقد جماعي.
وكونه تعاقد يعني أن له صفة شرعية، وكونه جماعي يعني أن له صفة كلية، ولهذا السبب فهو إلزامي للجيل الحالي، وللأجيال القادمة طالما أنه موضوع بهذه الشروط: أي طالما أنه يعبر عن الإرادة الكلية للشعب، الذي وضعه بإرادته الحرة.
لكن في كل الأحوال، فإن تغيير أو تعديل الدستور، يجب أن يتم بشكلٍ قانوني، وهذه الممارسة هي بحد ذاتها، إقرار بان الدستور وثيقة دائمة، أو يجب أن تكون كذلك.
فعندما تقوم المحكمة العليا أو البرلمان بالتغيير الدستوري فإنها، أو يجب، أن تقوم به طبقاً لروح مواد الدستور والقوانين وأهدافها المعترف بها في الدولة، وبذلك يتم التأكيد والاعتراف بحرمة الدستور ومشروعيته.