((الطُعون الانتخابية البَرلمانية السّورية بَين وُضوح النّص وَالخطَأ في التفسِير والتَطبيق))

((الطُعون الانتخابية البَرلمانية السّورية بَين وُضوح النّص وَالخطَأ في التفسِير والتَطبيق))

 

الدكتور يوسف رزوق

باحث وكاتب في القانون العام

 

إن دور المحكمة الدستورية العليا السورية في معرض البت في الطعون الانتخابية البرلمانية، كان دوراً صورياً في السابق، لا يعدو كونه استشارياً غير ملزمٍ، إذ وفق القانون / 19 / في ظل دستور /1973/ كانت المحكمة الدستورية تنظر في الطعون الانتخابية البرلمانية وتقوم بإجراء التحقيقات الخاصة، وتضع التقرير الخاص بنتيجة التحقيق موقعاً من رئيس المحكمة وأعضائها وكاتب الضبط، ويُحفظ في سجل خاص ثم تُبلغ صورة عنه إلى كل من رئيس مجلس الشعب وإلى المطعون في صحة عضويته، على أن يقوم مجلس الشعب ذاته بالفصل في صحة عضوية العضو المطعون ضده على ضوء التحقيقات التي أجرتها المحكمة الدستورية العليا وذلك خلال شهر واحد من تاريخ تبليغ تقرير المحكمة إليه وبأكثرية أعضائه، وبذلك يكون دور المحكمة لا يعدو كونه دور قاضي التحقيق وغير إلزامي للمجلس الذي يتمتع بِدوري الخصم والحكم في آن معاً، وهو ما يتعارض في مضمونه مع صلب الاختصاص القضائي وما يستلزمه البت العادل في المنازعات، والتي تستوجب أن يكون الحَكَم في النزاع على مسافة واحدة من كافّة أطرفه، متبعاً مناهج العدالة والمساواة، وكل ما هو على خلاف ذلك يكون مثاراً للشك ومدعاة للقلق، وخاصة في تلك الحقبة عندما كان مبدأ الحزب القائد هو النهج المتبع والمُقَونَن دستورياً، ويثور التساؤل هل من الممكن أن تصوت الأغلبية البرلمانية الحاكمة على إلغاء نتائج الانتخابات بفوز أحد الأعضاء من حزبها، وأليس من المفترض أن تكون لجنة ذات اختصاص وطبيعة قضائية هي التي تملك صلاحية البت في المنازعات المتعلقة بصحة تمثيل الإرادة الشعبية.

وذلك ما تناوله الدستور السوري لعام 2012 والقانون الحاكم لعمل المحكمة /2012/ ولاحقاً القانون النافذ حالياً 7/ 2014/، والذي منح الاختصاص الولائي الكامل للمحكمة الدستورية العليا في البت في الطعون الانتخابية البرلمانية بقرار مبرم وواجب النفاذ، ما يعني أنّ الاختصاص الولائي انتقل بالكامل إلى المحكمة الدستورية العليا، وما تتوصل إليه المحكمة نتيجة بحثها في صحة العضوية للمرشح الفائز المطعون ضده هو قرار واجب التطبيق والنفاذ ويترتب على كافة السلطات الالتزام به، واستصدار ما يلزم انسجاماً معه.

وبالرغم من أن القانون والدستور قد منحا المحكمة الدستورية العليا الاختصاص الولائي في فصل النزاع وصلاحية البَت في صحة العضوية ما يعني أنها محكمة قانون وموضوع في آن معاً، وأن دورها في فصل النزاع والبت في صحة العضوية هو دورٌ منشئٌ وليس دوراً كاشفاً فقط، فالمحكمة الدستورية العليا هي صاحبة الصلاحية والاختصاص في البت بموضوع النزاع الذي يترتب عليه منح الطاعن المركز القانوني وعدم حصول المطعون ضده على ذلك المركز أو العكس، حيث نصت الفقرة/و/ من المادة /16/ من الدستور على ما يلي ((  تختص المحكمة في الأمور التالية : و- البت في طعن من لم يفز بعضوية مجلس الشعب والمتعلق بصحة انتخاب الأعضاء الفائزين خلال سبعة أيام من تاريخ انتهاء مدة تقديم الطعون ويكون قرارها مبرما وواجب التنفيذ))، ونصّت الفقرة/و/  من المادة/11/ من قانون المحكمة على ما يلي ((و- النظر في الطعون الخاصة بصحة انتخاب أعضاء مجلس الشعب والبت فيها))، كما نصّت المادة /34/ على انه (( إذا ثبت للمحكمة صحة الطعن الذي من شأنه أن يؤثر في نتيجة الانتخابات النهائية قررت إبطال عضوية المطعون ضده)).

وخلال نظر المحكمة الدستورية العليا في الطعون الانتخابية البرلمانية في انتخابات /2020/ قامت المحكمة برد كافة الطعون الانتخابية مستندة إلى تعليل واحد، كالآتي :

(( لما كان قانون الانتخابات العامة بين في أحكامه جميع إجراءات الانتخابات بدقة، ومكن المرشحين أو وكلائهم من مراقبة عملية الاقتراع وفرز الأصوات والاستماع إلى ملاحظاتهم واعتراضاتهم وتدوين ذلك في محضر خاص والبت في الاعتراضات المقدمة إلى لجنة الانتخاب أثناء سير العملية الانتخابية وفرز الأصوات والطعن بتلك القرارات التي تصدر عن لجان الانتخاب أمام اللجنة الفرعية التي تكون قراراتها مبرمة بهذا الشأن، أي أن المشرع أعطى ولاية البت بكل ما يتعلق بالعملية الانتخابية إلى مرجع قضائي وهو اللجنة القضائية الفرعية. ومعنى أن تكون قراراتها مبرمة أنه لا يجوز لأي مرجع قضائي آخر إعادة البحث فيما سبق أن بتت بموضوعه أو أن من تقرر له الحق من المرشحين مراجعتها، قد فرط باستخدام حقه بالادعاء أمامها فلا يجوز له إعادة بحث  ما يتعلق بالعملية الانتخابية أمام أي مرجع آخر حتى ولا أمام المحكمة الدستورية العليا.

وأما لجهة ما يمكن أن ينسبه المرشحون لبعضهم أو ما ينسبه مرشح للجان الانتخابات أو لأحد من المكلفين بعمل من أعمال العملية الانتخابية من أفعال تؤثر على نتيجة الانتخابات فإن المشرع بقانون الانتخابات العامة في المواد/108/ وما بعدها بين ما يمكن ان يقع من تلك الأفعال أن السلطة المختصة بالتحقيق في الجرائم الانتخابية هي ذات السلطة المختصة بالتحقيق في الجرائم العادية، وعليه فإن المرجع القضائي الذي له الولاية والاختصاص بنظر الادعاء أو الإخبار لجهة تلك الأفعال إن كان لجهة تحريك الدعوى العامة أو النظر فيها معقود للقضاء الجزائي ولا يقدم الادعاء بشأن تلك الأفعال بطعن أمام المحكمة الدستورية العليا.

وحيث أن الطاعن لم يقدم أي وثيقة أو إثباتات خطية يثبت جدية ما أثاره في طعنه وبقيت أقواله مرسلة غير مؤيدة بأي دليل، فضلاً عن أن ما نسبه في لائحة طعنه لا يصلح أن يكون محلاً للطعن في نتيجة الانتخابات، ولا يقدم أمام المحكمة الدستورية العليا، وهذا ما يجعل الطعن مستوجب عدم القبول شكلاً)).

وفي تحليل فحوى هذا التعليل الذي قدمته المحكمة الدستورية العليا لرد الطعون، تكون المحكمة قد أحالت بخصوص البت في كل ما يتعلق بسير العملية الانتخابية إلى اللجنة القضائية الفرعية في المحافظة واعتبرت أن ما بتت به اللجنة هو قرار قضائي مبرم لا يجوز النظر فيه مرة أخرى، وإن المرشح الذي لم يقدم اعتراضاً امام لجان المركز الانتخابي لتنظر به اللجنة القضائية الفرعية يكون قد فرط باستخدام حقه بالادعاء أمامها فلا يجوز له إعادة بحث  ما يتعلق بالعملية الانتخابية أمام أي مرجع آخر حتى ولا حتى أمام المحكمة الدستورية العليا وهذا يعني أن المحكمة قد خرقت النص الدستوري والقانوني من خلال تنازلها من غير مسوغ قانوني عن صلاحياتها الولائية في البت في الطعون الانتخابية سواء كمحكمة قانون أو كمحكمة موضوع،  حيث حظرت على نفسها النظر في أي اعتراض قد أُثير أو لم يُثار أمام اللجان القضائية الفرعية .

 وتفسير المحكمة الدستورية العليا في هذا الإطار هو تفسير يضيق ويحد من صلاحياتها التي من المفترض أن تحمي الحق الشخصي والحق الدستوري في المشاركة السياسية والوصول الى المواقع المنتخبة وصحة ودقة العملية الانتخابية التي تعكس مستوى التأييد السياسي على أرض الواقع علماً أن صحة التمثيل السياسي وانتخاب برلمان يعكس الإرادة الشعبية هو ليس فقط موضوع يرتبط بالمرشح نفسه بل هو موضوع يرتبط بالإرادة الشعبية ودستورية التمثيل السياسي في البرلمان.

واستمرت المحكمة الدستورية العليا في نهجها المقيد لاختصاصها وصلاحياتها من خلال حصر ولاية النظر في ما قد ينسبه المرشحون لبعضهم أو ما ينسبه مرشح للجان الانتخابات أو لأحد من المكلفين بعمل من أعمال العملية الانتخابية من أفعال تؤثر على نتيجة الانتخابات بالسلطة المختصة بالتحقيق في الجرائم العادية، واعتبرت أنّ المرجع القضائي الذي له الولاية والاختصاص بنظر الادعاء أو الإخبار لجهة تلك الأفعال سواء إن كان لجهة تحريك الدعوى العامة أو النظر فيها هو القضاء الجزائي ولا يَصلح أن يُقدم الادعاء بشأن تلك الأفعال بطعن أمام المحكمة الدستورية العليا، ومما لا مجال للشك فيه أن إحالة النظر  فيما يتعلق في الأفعال التي تشكل جرائم انتخابية ( كالرشوة الانتخابية ) إلى القضاء المختص الجزائي هو سليم قانونياً ولا مجال للبحث فيه، ولكن على اعتبار أن المحكمة الدستورية العليا تتمتع بولاية البت في صحة الطعون الانتخابية واتخاذ القرار بإبطال العضوية في حال وجود ممارسات تؤثر على نتائج الانتخابات كان من المُفترض أن تمارس دورها في البحث في صحة عضوية المرشح الذي تنسب إليه أفعال تؤثر على نتيجة الانتخابات لناحية سلامة العملية الانتخابية ونزاهتها ومدى تأثير تلك الممارسات عليها دون أن تتنازل عن اختصاصها وتحيل النظر في الموضوع الى القضاء الجزائي المُختص وتتغاضى عن تلك الأفعال التي تؤثر في النتيجة الانتخابية بحجة أنها من صلاحية القضاء الجزائي.

وفي الخلاصة يمكن القول أنه وإن مُنحت المحكمة الدستورية العليا صلاحية البت في الطعون الانتخابية دستورياً وقانونياُ، لكنها عملت في ذات الوقت على حرمان نفسها والحد من صلاحياتها الدستورية والقانونية بمبادرة ذاتية منها، لصالح توسيع صلاحيات اللجان القضائية الفرعية التي لا تتمتع بذلك الاختصاص لا دستورياً ولا قانونياً، حتى أسهمت التفسيرات التي تبنتها المحكمة ذاتها في تضييق دورها واختصاصاتها في إجراء التحقيقات الخاصة بالطعون الانتخابية والتي كانت تتمتع بمطلق الصلاحية فيها في ظل القانون /19/ الذي كان ساريا في ظل دستور /1973/ على الرغم من أن دور المحكمة كان استشارياً، وهو على نقيض الواقع الحالي حيث تتمتع المحكمة بالاختصاص الدستوري والقانوني ولكنها تنتهج موقفاً معاكساً، رغم منحها كامل الولاية والصلاحية دستورياً وقانونياً في البت بكل ما يتعلق بصحة الطعون، وقد يُفهم من ذلك أن المحكمة تُبدي رغبة في إخلاء المسؤولية ( القانونية أو السياسية ) من خلال إحالة الصلاحيات المتعلقة بالتحقيق والبت في كل ما يؤثر على صحة النتيجة الانتخابية إلى جهات غير ذات صلاحية أو اختصاص لا دستورياً ولا قانونياً لأن تبحث في مدى صحة العضوية أو تأثير تلك الأفعال أو الممارسات على نتيجة الانتخابات.