أثر المكان على المرأة في غياب العدالة المكانية

أثر المكان على المرأة في غياب العدالة المكانية

تحقيق صحفي

عمران أبو محسن- صحفي سوري

 ثمّة علاقةٌ وطيدةٌ بين المكان والعدالة الاجتماعية والإنسانية، إذ تؤثّر طبيعة المكان على العلاقات الاجتماعية وسبل التّواصل بين النّاس، كما يحدّد المكان لساكنيه، في بعض الأحيان، طريقة حياتهم وسلوكهم الاجتماعي. وقد يحدُّ من حريتهم ويلجم خيالهم وتفكيرهم، ويؤثّر في اختيارهم لهواياتهم وشكل أحلامهم، ويُسهم في ضياع سنين من عمرهم، حين يُجبرهم على الانصياع لواقعه المرير، وعلى التأقلم السّلبي مع ظروفه ومعطياته.

 يفتقر معظم سكّان دمشق لأبسط مقومات العدالة المكانية- فهم بالكاد يحصلون على شيءٍ من العدالة الإنسانية- حيث يعيش كثيرٌ منهم في أماكن تشبه السّجون الكبيرة أو تفتقر لأبسط مقوّمات الحياة، وهو أمرٌ له آثاره السّلبية والمرضية، التي أثّرت وستؤثّر عليهم نفسياً، وصحياً، واجتماعياً، ومعاشياً، خاصّةً على بعض النّساء، اللواتي قتلت ظروف المكان أجمل الأشياء فيهنّ وحرمتهنّ من أبسط حقوقهنّ الإنسانية لتجعل منهنّ ضحيةً ترزخ تحت وطأة القهر والعذاب اليومي التي تفرضها تلك الظّروف.  

حين يكون المكان عدماً

بين بقايا الرّمل والإسمنت والجدران المليئة بالثّقوب والحفر تعيش أم ياسر وأبنائها الثلاثة في شقّة مقفرة (على العظم) لا تصلح للعيش البشري. تم استصلاح غرفة منها بعد تكنيسها وتنظيفها من مخلّفات البناء والحصى، وبصعوبة كبيرة تمّ استجرار الكهرباء من بناية مجاورة لإضاءة لمبة صفراء وتشغيل سخّان كهربائي لطهو ما تيسّر من طعام. أُغلقت نوافذ الغرفة ببعض القماش والشّوادر، وعلى أرضيتها الخشنة الوعرة مُدَّت سجادة مهترئة، وضِع فوقها بعض الفرش والبطانيات والوسائد. هذا هو كلّ أثاث البيت البائس بالإضافة لبعض الصّحون وأواني المطبخ، وبعض الصّناديق والكراتين المستخدمة كبديل عن الخزانة.

تتحدّث أم ياسر،التي فقدت زوجها في الحرب، عن معاناتها مع المكان: «نعاني كلّ يومٍ في نقل غالونات الماء إلى الطّابق الرابع لنؤمن حاجاتنا اليومية، وفي فصل الشّتاء نبحث في جوارنا عن بقايا الأخشاب وأكياس الورق والنايلون لنضعها في المدفئة، وفي الصّيف يجتاحنا الحرّ فنُشوى في لهيبه وتنبع الحشرات المختلفة والفئران من كل زاوية لتؤرِّق حياتنا ونومنا».

 تُضيف، مشيرةً إلى برميل الماء العكر المستخدم للاستحمام وجلي الأطباق : «نسيت أننّي إمرأة، جفّت بشرتي وأصبحت خشنةً مترهلةً نتيجة للماء الملوّث. قبل النزوح من منزلنا الدّافئ النّظيف، كنت أتمدد في حوض الاستحمام لساعات بين البخار المتصاعد والراوائح العطرة، أمّا اليوم فلم أحظَ باستحمامٍ يرضي جسدي منذ سنوات، فلكي أستحم في هذه المكان تقف ابنتي حارسة على بابه المصنوع من الخردة والذي يمكن للهواء القوي أن يحطمه». وتتابع بألمٍ وحسرة: «أخشى من اقتحام أحدٌ ما للمكان الذي لا يوجد فيه أي مساحةٍ للخصوصية، إذ يمكن لبعض الجيران أو لصاحب الشقة- الذي جعل من غرفتها الأخرى مستودعاً- أن يدخلوا إلينا في أي وقت، لذا نعيش في قلقٍ دائم، فقلما أغفو بعمق خلال الليل، يداهمني الخوف كلّ لحظةٍ على ابنتيّ اللتين لا تجدان من يحميهما من أعين بعض رجال الحيّ التي تتحرش بهما كلّما خرجتا من البيت».

معاناة الاستحمام كمعاناة دخول المرحاض، الذي لا وجود له داخل الشقة، فالبناية لم تصلها أنابيب المياه وخدمات الصّرف الصحي، لذا ارتُجلَ، كيفما اتفق، مرحاض خارجي في الشقّة المقابلة، يقضي أفراد العائلة حوائجهم فيه ضمن وعاء أو كيس يقومون برميه في حاوية القمامة. وبالطبع، من أراد قضاء حاجته سيستعين بحارس من أفراد العائلة. 

حين تطل من نافذة أم ياسر سترى بيوتاً فاخرة يجلس أصحابها على شرفاتهم المزيّنة والمضاءة، في مشهد يفضح حجم التّناقض، وما يؤلم أكثر، أن أم ياسر تعمل في تنظيف تلك البيوت بصحبة ابنتيها، بينما يعمل صغيرها في توصيل بعض الطّلبات إلى تلك البيوت ونقل قمامتها إلى الحاويات مقابل بعض النّقود. 

لم تكن حكاية أم ياسر استثناءً، ففي الحيّ الذي تقطنه وفي أحياء أخرى مشابهة ثمّة مئات من النّسوة يعشْن ظروفاً مشابهة ويكابدن صراع العيش والتأقلم  مع أمكنة تفتقر إلى أبسط مقوّمات الحياة، حيث أصبح السّكن في تلك الشّقق ظاهرة غزت معظم ضواحي دمشق، وباتت حدثاً عادياً بنظر المجتمع، لنجد بعض المكاتب العقارية تعلن: «يوجد شقق (على العظم) للإيجار». 

أثار صحية ونفسية

تضطر ياسمين كلّ يوم لقطع مسافة طويلة لتحظَ وأطفالها بشيءٍ من الهدوء و بعض الهواء النّقي اللذان يغيبان عن حارتها ذات الشّوارع الضيقة والمزدحمة بالأبنية المتراصة والمتلاصقة لدرجةٍ تُشعرُك أنك تعيش مع جيرانك في بيتٍ واحدٍ. تتحدّث ياسمين عن واقع حالها: «أصحو كل يومٍ على وقع الضجيج المنبعث من المخرطة وورشتي النّجارة والحدادة، القريبتين من منزلي، حيث أصوات الطّرق والقرقعة وزعيق المنشار الكهربائي، بالإضافة لهذا، هناك ضجيج النّاس المنبعث من النّوافذ المتقاربة وصخب الشّوارع المكتظة بالسّيارات التي تكاد تسير فوق المشاة». وتضيف «إلى جانب التّلوث السّمعي، هناك تلوثٌ بصريٌ وحالة اختناقٍ يوميٍ وحصارٍ نفسيٍ دائم، فأعيننا لا تشاهد سوى كتلاً اسمنتية باهتةً وجدران أبنيةٍ رماديةٍ خشنة، وشوارع وعرة تمتلئ بالطين والرّمال وتنتشر فيها الحفر الكبيرة ، ولا تشمّ أنوفنا سوى رائحة القمامة المتراكمة دائماً في مساحات كبيرة تفيض عن الحاويات وتتجمّع حولها، بالإضافة لسموم دخان السّيارات والغبار النّاتج عن مواد البناء المترامية هنا وهناك، ناهيك عن أنّ معظم بيوت الحارة لا تدخلها الشّمس لأنّ مساحات الأبنية المرتفعة والمخالفة لقانون البناء حجبت الشّمس عن بيوت كثيرة وهو حال معظم حارات مدينة جرمانا».

وعن مشوارها اليومي تقول ياسمين «أهرب مساء كلّ يوم من هذا الجحيم بصحبة أطفالي إلى أوتوستراد مطار دمشق الدولي المحاذي لمدينتي، حيث تنتشر بعض الأشجار على جانبي الطريق، ما يتيح لنا نيل قسطٍ من الهدوء والأوكسجين، فنتمشّى قليلاً ونجلس على العشب بفيء الشّجر علَّنا نريح أعصابنا من الضغط والتوتر». مضيفةً «هذا المكان بات متنفسنا وفسحتنا الوحيدة بعد غياب الحدائق والمساحات الخضراء عن حينا وعن أغلب أحياء المدينة التي ينعدم فيها أي وجودٍ للطبيعة، فبالكاد تستطيع أن ترى شجرةً أو حتّى مساحة ترابية شاغرة للزراعة».

معاناة ياسمين تشابه معاناة معظم سكّان مدينة جرمانا التي تتشابه بدورها مع كثير من مناطق دمشق التي أصبحت مجرّد علبٍ إسمنتيةٍ التهمت معظم المساحات الخضراء التي كانت منتشرة حول العاصمة وبخلت على سكّانها بالحدائق أو الطرقات الواسعة، لذا أصبح مجرّد وجود منتزهٍ في حيّ ما من تلك المناطق يمثِّل جنّة لسكّانه ونافذة وحيدة لرؤية شيء من الطبيعة المفقودة. ففي جرمانا مثلاً، يلجأُ معظم السكّان، وخاصّة النّساء، إلى منتزهاتها التي انتشرت في السّنوات الأخيرة كبديل عن الحدائق العامة والبساتين التي خسرتها المدينة، وما تلك المنتزهات المكتظة بالبشر سوى مساحات أراضٍ صغيرة نجت من غزو الاسمنت، تحتوي على بضع شجيراتٍ متناثرة، يدفع زائرها نقوداً، قد يعجز عن تأمينها، لقاء جلوسه على كرسي فيها. 

وبينما كانت معظم أراضي المدينة، في الماضي القريب، مساحات خضراء متاحة لجميع الناس ليقضوا فيها معظم أوقاتهم عبر التنزّه والاستجمام في أحضان الطبيعة الرحبة.

 يُحرم اليوم ساكن هذه المدينة والمناطق المشابهة لها من أبسط حقوقه في الحياة، ليصبح تنفّس الأوكسجين ورؤية الأشجار مدفوعَ الثّمن.

آثارٌ اجتماعية 

قد يتحكّم سكّان الحيّ، أو الحارة، أو البناية في بعض المناطق في نمط وطبيعة حياة الآخرين ليقتحموا عالمهم الخاصّ ويتطفلوا على أدقّ تفاصيه، وقد يحدّدون لهم طريقة عيشهم، ونوع ضيوفهم، ومواعيد خروجهم وعودتهم..

حُرمت وفاء من الجلوس على شرفة منزلها الصغيرة، حيث يقابلها منزلٌ مكتظّ بالرّجال الذين يقضون أغلب وقتهم على شرفته بصحبة أجواء من الصراخ والقهقة والموسيقى الصّاخبة مقلقينَ راحة جيرانهم.

تروي وفاء ما عانته معهم «منعني وجودهم حتى من شرب قهوتي على الشّرفة، فما أن أجلس عليها حتّى يرمونني بسهام نظراتهم المتحرّشة وعباراتهم الذكورية لأشعر بأنّني محاصرة كالفريسة. لذا تخلّيت عن الجلوس على الشّرفة بعد أن تشاجر زوجي معهم أكثر من مرّة دون أن يتمكن من ردعهم». وتضيف وفاء: «أجبرني واقعي هذا على زيارة أختي كلّ يوم تقريباً لكي أتمكن فقط من شرب فنجان قهوة بهدوء وسلام على شرفة منزلها، دون أن يتعكّر مزاجي وأصاب بالتوتّر والشّعور بالاضطهاد».

وبينما حُرمت وفاء من الرّاحة والهناء في منزلها، حُرمت سارة في مكان آخر من استقبال خطيبها أو أي من أصدقائها الشباب في منزلها المستأجر، حيث تقول: «منعني صاحب منزلي من ذلك بحجة أنّي أعيش بمفردي، فاستقبال الرّجال- برأيه- سيسيء لسمعتي وسمعة منزله، حتى ولو أتوا بصحبة خطيباتهم أو زوجاتهم أو أخواتهم، وفوق ذلك يفرض عليّ ألاّ أتأخّر ليلاً، وأن أعود إلى المنزل قبل العاشرة مساءً، وما يغيظني في الأمر أكثر، أنّ ابنه الشّاب، الذي يسكن في المنزل المجاور لمنزلي، يستطيع استضافة النّساء اللواتي يريدهن وفي أي وقت». وتضيف: «لم يعد أمامي خيارٌ سوى تغيير المنزل أو انتظار موعد زواجي لأخرج من هذا السّجن».  

حالة أخرى تعيشها رشا، التي دفعت ضريبة كبيرة لأنها نزعت حجابها وحاولت تعلّم العزف على آلة الغيتار، ورغم موافقة أهلها على ذلك أصبحت محط انتقاد واحتقار معظم سكّان حارتها المتزمتين دينياً واجتماعياً، حيث تقول: «حين أمرّ في الحارة بصحبة غيتاري تصيبني عبارات الشّتائم والتهكّم والاتهام بالفسق والفجور وارتكاب الخطيئة، أشعرُ وكأنّ العيون تلتهمني بنظراتها الكارهة، ممّا يتسبّب بحرجٍ وانتقاد كبيرٍ لعائلتي، فهنا يتعجبون من رؤية فتاة تحمل آلةً موسيقية، إنّه أمر يدعو إلى الانحلال الخلقي برأيهم وكافٍ لأثارة الفتنة، فما بالك إذا كنت بغير حجاب!»، وتضيف: «في نهاية الأمر أُجبرت على الانصياع لرغبتهم، ولأحظى بقبولهم في هذا المكان تحوَّلت إلى شخصيتين، إذ أعيش شخصيتي التي أحبها لنصف أيام الأسبوع في بيت صديقتي في منطقة الدويلعة فأرتدي ما أريد من الثّياب وأتدرّب على العزف، وحين أقضي باقي أيامي في منزل أهلي أعود لشخصيتي الأخرى فأرتدي حجاباً ولباساً «محتشماً» وأتخلّى عن غيتاري، فقط لأُرضي من يرفضون مظهري، على الرّغم من أنّني أتقبلهم كما هم».

أمراض يخلّفها المكان

ترى الدكتورة سلوى،الأخصائية النفسية الاجتماعية، أنّ غياب العدالة المكانية يؤدي إلى حدوث عشرات الأمراض الجسدية والنفسية، فبناء المعامل والمصانع في أماكن سكنية، له أثرٌ خطير على البيئة، ويؤثّر في صحة السكّان نتيجة تلوّث الهواء، خاصةً في غياب المساحات الخضراء وانتشار السيارات ووسائط النقل، كما أنّ تراكم القمامة وتسرّب مياه الصّرف الصّحي في بعض الأماكن، قد يكون سبباً في تلوّث مياه الشّرب ونقل العديد من الأمراض والجراثيم والأوبئة.

وتضيف د.سلوى: «إنّ العيش في أماكن الازدحام والضّجيج يخلق حالة من الأرق والتوتّر وعدم الاسترخاء عند سكّان تلك الأماكن، فمعظم أمراض التوتّر وارتفاع ضغط الدّم والأمراض العصبية ناتجة عن ضوضاء وضجيج المكان، بالإضافة لأمراض ضعف السّمع وعدم التّركيز وفقدان التّوازن النّفسي. كما أنّ العيش في بعض الأماكن، التي لا تراعي خصوصية النّاس، أو التي تنشط فيها الجرائم الاجتماعية وحالات التحرّش، قد يولد حالة خوفٍ وقلقٍ دائمين، ويُشعر ساكن المكان بأنّ خطراً دائماً يتهدّده، ما يجعله عرضةً لأمراضٍ واضطرابات نفسية كثيرة». 

 

وتختتم د. سلوى كلامها: «هناك أمكنة تقتل الإبداع والطموح، كونها تغلق كثيراً من آفاق الحياة في وجه سكانها، وقد تُشعرهم بالنّقص والدّونية فيشعرون بالكره نحوها، ويفقدون شعور الانتماء إليها، خاصّة إذا ما قارنوها بأماكن أخرى، لذا كثيراً ما يهرب البعض من أمكنتهم ليبحثوا عن أخرى تحترم وجودهم ونمط حياتهم، مستغنين عن بيوتهم الأصلية ليعيشوا في أخرى مستأجرة، ما قد يؤثر على الهوية المتنوعة للمكان ويصبغه بصبغة اجتماعية أو طبقية واحدة، ليخسر بذلك ذاكرته، وطبيعته، وتاريخه الاجتماعي».