إلغاء طقس آخر من طقوس الدم ضحايا جريمة مجتمعية وقانونية
المحامية خديجة منصور – مركز المواطنة المتساوية
أصوات غريبة وضجة لم نعهدها قبل، خرجنا من قاعة المحامين ضمن القصر العدلي وتوجهنا إلى مصدر الضجيج، كانت عناصر الشرطة قد أحاطت مكان الجريمة في الطابق الأول، جانب مكتب قضاة التحقيق، ومنعت الشّرطة أيًا كان من الاقتراب، ولم تتمكّن الشرطة من إنهاء حالة الهلع التي أحاطت بالحادثة، ولم تتمكّن ذاكرة القصر العدلي من طيّ ذاكرة صرخات القهر حتّى وقت قريب، فالأخ شحذ سلاحه المحمي بنصّ القانون ليُمارس فعل استعادة شرف العائلة بذبح أخته ولم يردعه كم الوعي القانوني المفترض حوله، ولا وجودهما داخل المبنى القانوني الأهم في سورية: قصر العدل!.
كاد يقتلها هنا أمام غرفة التحقيق، كانت الدماء تسيل من عنقها، وهو لم يستطع إكمال جريمته، فقد منعته عناصر الشرطة من إتمام الجرم وانتزعت السكين. وحتّى لحظة وصولي، وما بعدها، لم يظهر على الأخ أيّ علامة لندم أو تردّد، بل ربّما العلامة الوحيدة التي بدت على وجهه البارد كانت علامة القلق على شرفٍ لم يمكنّه حظّه العاثر من استرجاعه بإتمام طقس الذبح المفترض لأخته، شريكة لحمه ودمه.
كمن أضرم النّار في الهشيم، بدأت التكهنات والنظريات والسؤال الباهت: ماذا فعلت؟ من المؤكد أنّها لطّخت شرف العائلة والأخ صاحب الحقّ بغسل شرفه الملوث!، ولو لم ترتكب الفجور والزنا لم يكن ليقتلها ويغسل شرفه وشرف عائلته. لا وجود لحقّ الحياة هنا، أي لا وجود للفتاة على هذا المسرح إلا كقربان صامت جاهز للتقديم على مذبح آلهة الشرف الذكورية. الكلّ مشارك بطقس الدم.. والطقس محمي بنصّ القانون، منه وإليه نعود!
اليوم وبعد مرور سنوات على هذه الحادثة، مازلت لا أستطيع تصديق شناعة ما رأيته وسمعته من قانونيين/ات ممن يُفترض أن يقع على عاتقهم/ن مهمة الوعي بالمنظومة القانونية والحقوقية كافة. فما الذي جرى هنا؟ وهل خفي على أحد الحقّ المقدّس الأوّل،الحقّ في الحياة؟.
كثيرة هي أحاديث النسوة لبناتهن التي تحكي قصص الشرف والحفاظ عليه، يسردن ما جرى من جرائم بحقّ النساء بحجة الدفاع عن الشرف، فقلّما تخلُ منطقة في سورية من تلك الجرائم – التي يصبغونها للأسف بصفة البطولة- ولا يدرك المجتمع، أو لا يريد أن يدرك أنّها جريمة، ويعتبر أنّ الجريمة هي (قصة الحب) مهما كانت بريئة فالشيطان دائمًا ثالث الاثنين.
وقلّة من النّساء والرّجال هنا يجرّمون تلك الأفعال، ولا عجب في ذلك إذ أنّ ثقافة القتل هذه محمية بالقانون، والقانون محمي برجاله وأسلحتهم المتعددة.
(يستفيد من العذر المخفف من فاجأ زوجته، أو أحد أصوله أو فروعه، أو إخوته في جرم الزنا المشهود، أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص أخر. فأقدم على قتلهما، أو إيذائهما، أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد، وتكون العقوبة الحبس من خمس سنوات الى سبع سنوات في القتل)
المادة /548/ قانون العقوبات السوري
هذا القانون المستمدّ من المعتقد الديني والموروث الاجتماعي، والمخالف لإعلان حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها سورية منذ سنوات، هو المسؤول الرّئيس عن حالة الاستهتار بحياة النساء وحقوقهن، وهو الذي يسمح بالتالي بممارسة أقسى درجات العنف تصل لحد سلب حقهن بالحياة لمجرد الشك ودون أي مساءلة.
المعركة لم تنتهي بعد
تاريخيًا ناضلت المرأة السورية في سبيل إلغاء تلك المواد التمييزية التي تنتقص من كرامتها الإنسانية وتستبيح حياتها، فكم من جريمة حدثت بحقّ النساء وتبين براءتهن لاحقاً ممّا اتهمن به، ولم تؤخذ براءتهن مبرّرًا لإعادة فتح ملف الجريمة قضائيًا لأسباب مجتمعية وقانونية كثيرة.
وقد سعت منظمات المجتمع المدني الناشطة في مجال حقوق المرأة منذ عقود لإعادة النظر في القوانين الظالمة بحق المرأة، وقد كثفت جهودها منذ عام 2011 لتسليط الضوء على مكامن الخلل القانونية والمجتمعية كافة بما يتعلق بحقّ المرأة، وناضلت لبقاء ملف حقّ المرأة السورية حاضرًا على طاولة المفاوضات السياسية وكذلك بالضغط على السلطة التشريعية هنا للسير بخطوات تعديل جدية لهذا الملفّ الحقوقي المشبع بالانتهاك، حيث قدّمت النُّسويات الدّراسات والأبحاث القانونية المختلفة وما تمكنّ من رصده من حالات عنف، كذلك قدمن مقترحات قانونية بديلة أكثر توافقاً والدستور السوري والاتفاقيات الدولية المصادق عليها من قبل الدولة السورية.
فكان لابد أن تثمر جهودهن أخيراً بالمرسوم رقم 2/ 2020 القاضي بإلغاء المادة /548/ من قانون العقوبات والغاء صفة الشرف عن تلك الجرائم، ليكون توصيف الجرم جرم قتل، والمجرم مجرم لا يستحق أن يلتمس المعذرة تحت ستارة الشرف الواهية.
واعتقد أن الدرب مازال أطول مما نتمنى، يدفعنا إليه نسب العنف اليومية التي تصلنا عما تتعرض له النساء من اضطهاد وأذى مضاعف محمي بشريعتنا القانونية تارةً، وشريعة المجتمع تارة أخرى.