إلى المثقف الذي اختار الغياب

شيرين سعيد- مركز المواطنة المتساوية

 

ما زلت أشعر بكلّ شيء، أصوات عصافير لم تفقد أجنحتها بعد، وأخرى فقدتها لكنها ما زالت تملك الصوت. طائراتٌ محملة بأحلام قتيلة، أستطيع تمييز رفرفة دوري صغير يعتقد أنه سيكبر وسيصبح جناحه بحجم تلك الطائرة، وسيزرع السماء موسيقى.

 أصواتُ البشر التي يُرافقها لهاثٌ وحديدٌ وخرابٌ. شخصٌ ما يعمّر بيتاً على أنقاض جناح الدّوري الصغير، وشخصٌ يحفر بئراً بعد أنْ اقتلع شجرة، ليزرع شجرةً مكانها ويضمن أنّه يستطيع أن يسقيها، لأنّ الله قد ينسى أنها بحاجة للمطر، فهو مشغولٌ بأشياء أكثر أهمية، أستطيع أن أشعرَ بالأمل الذي يجتاح جسد ذلك الرّجل، أملٌ يعكّره الفقر وطعم الملوحة في عرق الجبين، أشعرُ بالفرح الذي أنتظره عندما يفتح طفلي القادم عينيه، وأشعر بالخوف من أن يرى كل الحكايات التي تخبئها عيني، ما زلت أشعر بكل شيء، إلاّ أنّ أصواتاً ووجوهاً اعتدت سماعها، غابت تماماً عن دائرة الذاكرة، أيضاً أستطيع أن أشعر بذلك.

من قال إننا ننسى أو لا ننسى، نحن فقط نفتقد لبعض الصمت، حينها سندرك أن النسيان مصطلح غريب ومجهول الهوية، فكلّ شيء مخزّن في مكان ما، لكن الضجيج أتلف قدرتنا على استحضاره، أو أنه أتلف رغبتنا بذلك، الصمت الذي يجعلك تشعر بكل صوت يتحرك حولك، لا بد أن ينبهك إلا أن هناك شيء ما، بعيداً في روحك، توقف عن الحركة.

«كلنا مثقفون، لكن جميعنا لا يملك وظيفة المثقفين في المجتمع» صديقك الذي قال هذه العبارة لم يعرف أن وظيفة المثقف في هذي البلاد لا تشتري الخبز ولا تحمي من هدير الرصاص، وإن فعلت، أبدعت في الخلق، وفي الغياب أيضاً، فهي الوظيفة القاتلة لكل من احترفها، لأنّ الحب، والجمال، والصداقة، والخمر، والثورة والحرب، كلها لم تعد حقيقية إلاّ بين تلك السطور، تجلس وحيداً، تجسدهم في كل ما التهمت من كتب، تراهم في كل الصفحات، تحلم وتيقن بأن كل البشرية عرفتهم، لكن ليس كما عرفتهم أنت، فأنت هنا، وحيداً مهملاً كالصدأ، تنتظر خبراً على شاشة محرومة من كل المشاعر، وتعرف جيداً أن الأخبار الجيدة النادرة لم تعد تكفي لغسل ملامحك اليابسة.

قد تموت لأن جسدك أثقل بالألم، قد تموت لأنك ابتلعت خطأً ما لا يبتلع، وكم من أشياء لم تعد تبتلع في عالمنا، وقد يتوقف قلبك عن الرقص، فتموت لأنك ترفض ذلك التواتر المقيت، وتفضل الصمت على الإيقاع الرتيب.

إن كنت حراً أو مجبراً على الغياب، لا تنس أن شيئاً ما زرعته في مكان ما، لن يموت، وربما لم تقصد أن تزرعه، أو لم تقصد المكان، فالبرية أكثر صدقاً وعمقاً من كل البساتين المنمقة.

 أشعر بك اليوم كما يفعل كثر غيري، ريشة ترسم ضحكات في كل طريق، ترسم فكراً وحباً وثورة.

 أشعر بك اليوم عندما يسود الصمت، وتغيب وظيفة المثقف، لأسأل نفسي، هناك شيء ما، بعيداً في روحي.. توقف عن الحركة.

(*اللوحة للفنان منير الشعراني: كلّ فناء لا يعطي بقاء لا يعوّل عليه- ابن عربي).