احترام الأديان واضمحلال الحرّيات الدّينية

احترام الأديان واضمحلال الحرّيات الدّينية

خالد المشرقيّ

 

من يراقب مجتمعاتنا عن كثب بعين مجردة ومتجردة قد يلاحظ وجود نوع من العلاقة العكسية بين احترام الأديان واحترام الحريات الدينية!، إذْ ينطوي المفهوم الشائع مجتمعياً لاحترام الأديان على أنواع وحالات مختلفة من الانتقاص والتعدّي على الحرّيات الدّينية لأفراد المجتمع، وهي تجاوزات تستوجب التوقف عندها.

يمكن تشبيه العلاقة بين احترام الأديان واحترام الحرّيات الدّينية بالعلاقة بين احترام الحكام واحترام الحرّيات السّياسية!، فنحن شعوب تتمتع برصيدٍ عالٍ من احترام الحكام واحترام الأديان، فيما تضمحل وتتلاشى لديها الحرّيات السّياسية والدّينية.

لفهم هذه العلاقة علينا بدايةً تفكيك احترام الأديان نفسه تعريفاً ومفهوماً، فما المقصود بـ «الاحترام» في احترام الأديان؟.         
أنْ تحترم شخصاً أو فكراً ما يعني عادة أنْ تكنّ تقديراً وإعجاباً للشخص وصفاته وسلوكه، أو للفكر ومبادئه ومخرجاته. فهل ينطوي احترام الدّين على الإعجاب أيضاً؟. من الجلّي أنّ الإجابة هي بالنّفي، لأنّه من غير الوارد لشخصٍ لا يُدين بدين ما أن يكون معجباً بهذا الدّين، وإلاّ لكان من الأجدى به اعتناقه أو اتباعه. كما لايمكن لكلّ شخصٍ أن يكون معجباً بجميع الأديان المختلفة والمتباينة في محيطه، أو بلده، أو في العالم ككل.

الاحترام المقصود ليس إعجاباً وتقديراً إذاً، كما أنّه لايمكن أن يكون مهابةً أو حتّى خوفاً كما في السياق القانونيّ المدنيّ أو حتّى العسكريّ، لأنّ الأديان المتنوعة ليست قوانين دولة أونُظم عسكرية بالنسبة لغير معتنقيها وعليهم الالتزام بها. يبقى أنّ المقصود هو أقرب للمعنى المتعارف عليه والمتضمن في عبارة "أنا أحترم رأيك، ولكنّي أختلف معه ولا أتبناه"، وهنا يحقّ لنا التساؤل هل الاختلاف الصريح مع الأديان والاعلان عن عدم اعتناقها هو حقٌّ مصان في ثقافة احترام الأديان؟، ألم تنتج هذه الثقافة نفسها في أحيان كثيرة عنفاً لفظياً ومعنوياً وجسدياً تجاه المختلفين والمخالفين للأديان؟.

 

قد يفهم البعض احترام الأديان على أنّه تجنب المساس بمقدساتها، ولكن هذا بدوره مفهوم شائك ولايخلو من الغموض والتعقيد، فالهندوس يقدّسون البقر مثلاً، ويحرّمون ذبح الأبقار وتناول لحومها، وبالتالي ما الذي يمكن أن يعنيه بالنسبة لغير الهندوسي عدم المساس بمقدسات الهندوس؟ هل يتوجب على بقية البشر جميعاً الامتناع عن تناول لحم البقر احتراماً للهندوسية؟!.

مثال آخر على جدلية «المساس بالمقدسات» أستمده هذه المرة من وسط أقرب إلينا من الهندوسية وأبقارها المقدّسة، ففي سياق فهمها وترويجها لاحترام الأديان قامت إحدى القنوات التلفزيونية السّورية بعرض مسلسل إيراني يتحدث عن حياة المسيح في فترة الأعياد المسيحية، ولكنّ المسلسل قوبل باستهجان واستنكار شديدين من المسيحيين مع دعوات لوقف بثه وحتى محاسبة القناة على عرضه بسبب «تشويهها للحقيقة وعدم احترامها للمسيح والدّين المسيحيّ» من وجهة نظرهم! فكيف فهم ما أريد له أن يكون احتراماً لدين معين وتقديراً له على أنه إساءةٌ اليه؟ في حقيقة الأمر أنّ المسلسل"المسيء" ليس إلاّ عملاً تلفزيونياً مستنداً إلى الرواية القرآنية لحياة يسوع المسيح! ومن الطبيعي كون المسيح نبياً وليس إلهاً في الإسلام أنْ تختلف قصته الإسلامية عن تلك المسيحية، فهل ينبغي محاسبة المسلمين بتهمة عدم الاحترام وازدراء الدّين المسيحي بسبب رؤية دينهم المختلفة للمسيح؟ وهل يعتبر إيمانهم ببشرية المسيح وعدم اتصافه بصفات الوهية مساساً بالذات الإلهية المسيحية تستوجب منع الخوض فيها أو التعبير عنها؟.

مفهوم احترام الأديان إذاً هو مفهوم ملتبس متناقض في أحيان كثيرة وغير متماسك، وليس من المستغرب أنه لم يعد موجوداً بهذا الشكل في ثقافات عديدة أخرى، كما لايمكن لحظه في العديد من الدّساتير والتشريعات الدولية، بل تم استبداله بمفهوم حرّية الاعتقاد أو الحرّيات الدّينية، والتي تضمن عدم التّعرض للعقائد والأديان بالمنع والتضييق، وصيانة حقوق اتباعها في اعتناقها وممارستها دون خوف أو إكراه أو تمييز ضدهم، حيث تنص المادة 18 من المعاهدة الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسّياسية المستندة إلى الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان والتي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ عام 1976 على أنه:

«لكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم ...... كما لا يجوز تعريض أحد لإكراه من شأنه أن يخل بحريته في أن يدين بدين ما، أو بحريته في اعتناق أي معتقد يختاره».

حرّية الأديان واعتناقها وممارستها إذاً مضمونة ومكفولة في المواد المتعلقة بالحرّيات الدّينية المنصوص عليها في القانون الدوليّ، وذلك بما لا يضرّ بالمصلحة والسّلامة العامة ولا يتعارض مع حقوق الآخرين، ومن المعيب فعلاً أنّ هذه الحرية التي اتفق عليها المجتمع الدّولي لاتزال تنتهك في العديد من البلدان والمجتمعات، إلاّ أنّ المفارقة هي أنها تنتهك في أحيان كثيرة في مجتمعاتنا تحت عنوان «احترام الأديان» نفسه، احترام يبدو أنّه يعني للكثيرين الفرْض والوصاية الفكرية والوجدانية بدلاً من الحرّية بكل تجلياتها.

*اللوحة للفنّان السّوري منير الشعراني.