العبور نحو الديمقراطية في قراءة للمرحلة الانتقالية الإسبانية

العبور باتجاه الديموقراطية-المرحلة الانتقالية الإسبانية    

المحامي فائق حويجة-مركز المواطنة المتساوية                                                                     

إنّ التفكير اليوم في عملية الانتقال الديموقراطيّ–السلميّ في إسبانيا، اعتباراً من أواسط  سبعينيات القرن الماضي، وبعد أربعة عقود من الحكم العسكري الديكتاتوري، ليس ترفاً فكرياً بقدر ما هو محاولة للتأمل في الظروف والسّياقات التاريخية –الموضوعية والذّاتية– التي أوصلت إسبانيا إلى ما هي عليه،  في الوقت الذي أوصلتنا سياقاتنا التاريخية –الموضوعية والذّاتية– إلى ما نحن فيه!.

جاءت فرادة الانتقال التاريخي الإسباني باتجاه الديموقراطية، بسبب الحقبة الطويلة من حُكم الدّيكتاتوية العسكرية الفرانكوية والتي قاربت الأربعة عقود، والتي تمّ تجاوزها من خلال مرحلة انتقالية استمرت قرابة الثماني سنوات وتميّزت بالتّدرج والسّلمية، لتوصل المجتمع الإسباني – من حيث النتيجة – إلى الديموقراطية المنشودة.

الحرب الأهلية الإسبانية (1936 - 1939)

جاءت الديكتاتورية العسكرية الإسبانية، بقيادة الجنرال فرانكو، على جثّة «الجمهورية الوليدة» بعد حرب أهلية استمرت ثلاث سنوات من 1936حتّى 1939، نتيجة  أسباب، وظروف تاريخية داخلية وخارجية مختلفة تجلّت في:

  1. الانقسام الاجتماعيّ الحادّ (البرجوازية المدينية: مدريد–برشلونة- فالنسيا) الدّاعمة للحكومة الجمهورية، بمواجهة الكنيسة والأرياف الفلاحية المتحالفة مع الجيش.
  2. رفض الجيش للحكومة الجمهورية  المنتخبة، إذْ أنّ الانقلاب كان بدعم من وحدات عسكرية إسبانية متواجدة في المغرب، وبلد الوليد،و قادس، وقرطبة، وإشبيلية. (خلال تلك الحرب، كان الجنرالات الإسبان، ومعهم عدد من السياسيين المغاربة، يقنعون المقاتلين المغاربة (وخاصة الريفيين) بالاشتراك في الحرب، وكانوا يصفونها بالحرب ضدّ الملحدين وأعداء الله ورسوله، في إشارة للشيوعيين الذين يساندون الجمهورية، وانتشرت إشاعات تقول إن فرانكو اعتنق الإسلام وإنهم شاهدوه يؤدي مناسك الحج (الحاج فرانكو!)، وإن الأندلس ستعود قريباَ إلى المسلمين بعد الانتصار في الحرب!َ).
  3. الانقسام السّياسيّ العالميّ، فقد قامت كل من ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، بدعم القوات القومية –الانقلابية- بالذخيرة والجنود، بينما دعم الإتحاد السوڤييتي والمكسيك "الملكيين" أو "الجمهوريين"، ووقفت البلدان الأخرى، مثل بريطانيا وفرنسا، على الحياد.
  4. آثار الأزمة الاقتصادية العالمية  1929-1933، التي عكست نفسها على الواقع الإسبانيّ بطالةً وإفقاراً..إلخ.

وكان من نتائج هذه الحرب:

  1. هزيمة الجمهورية وانتصار الفاشية بقيادة الجنرال الدكتاتور فرانكو.
  2. قتل ما لا يقل عن 3 ملايين إسباني، وتدمير هائل في البنى الاقتصادية والعمرانية، ونزوح ما لا يقل عن 2 مليون إسبانيّ إلى البلدان المجاورة والبعيدة.
  3. الانقسام المجتمعي العالمي: تبعاً للمواقف الفكرية للمثقفين، فقد شارك مثقفو العصر في هذه الحرب بشكل مباشر( شارك في الحرب ضد الفاشية في إسبانيا حوالي 60 ألفاً من المتطوعين من 50 دولة)، منهم خيرة مثقفي العالم في ذلك الوقت مثل:  إرنست همنجواي - جورج أورويل - أندريه مالرو- فدريكو جارثيا لوركا - پاپلو پيكاسو - جون دوس پاسوس- لويس بونويل – رافائيل البرتي.. إلخ.
  4. صدور قانون الوحدة الوطنية، والذي يجرم بأثر رجعي كل من ناصر الجمهورية أو شارك في أجهزتها، وكل من يساهم في العمل السياسيّ والنقابيّ المعارض، ومصادرة أملاكه وسجنه 15 عاماً.
  5. حكم إسبانيا عن طريق ديكتاتورية عسكرية، قمعت الحريات السياسية والمدنية لمدة تقارب الأربعة عقود.

المرحلة الانتقالية

كانت المرحلة الانتقالية الإسبانية -والتي انتقلت خلالها إسبانيا من نظام فرانسيسكو فرانكو الديكتاتوريّ، إلى دولة ديمقراطية مسيًرة بدستور ضامن لدولة القانون-  قد مرّت عبر خطوات ومراحل جزئية، أوصلت في النهاية إلى نظام ديموقراطيّ مستقر. هذه الخطوات ابتدأت بشكل محدود جداً خلال حياة فرانكو، وتسارعت بعد وفاته في 20 تشرين ثاني1975 وتنصيب خوان كارلوس ملكاً بعد ذلك بيومين، ثمّ عبرت عن نفسها من خلال:

  • تكليف الشّخصية الليبرالية المعروفة (ادولفو سواريث) بتشكيل الحكومة، وجاءت التشكيلة خليطا من الوزراء الذين تطمئن لهم قوى النظام والمعارضة، وإطلاق حكومته لحوار وطني مع فعاليات الطيف المدنيّ والسياسيّ الإسبانيّ من أجل إنشاء نظام ديمقراطي في البلاد.
  • أصدر الملك عفواً عاماً عن مئات الألوف من السجناء والمنفيين والملاحقين من قبل النظام الدكتاتوري 1976،ومنع الضحايا من المطالبة بأية تبعات أو ملاحقات ضد الجناة.
  • مصادقة البرلمان الإسبانيّ على قانون الإصلاح السياسيّ الذي عمل على ترسيخ مفهوم دولة القانون، وتبنّي نظام برلمانيّ بغرفتين، والذي دخل حيّز التنفيذ 1976.
  • إجراء أول انتخابات تشريعية ديمقراطية منذ فترة الحرب الأهلية الإسبانية1977.
  • إقرارمواثيق المونكلوا (بالإسبانية: Pactos de la Moncloa)، وهي مجموعة من الاتفاقيات التي تمّ توقيعها، بين الحكومة الإسبانية برئاسة أدولفو سواريث، و أهم الأحزاب السياسية الممثّلة في البرلمان الإسبانيّ، بدعم من نقابة اللجان العمالية، وجمعيات أرباب المقاولات الإسبانية.
  • تشكيل لجنة صياغة أول دستور ديمقراطيّ إسبانيّ 1977.
  • في 6كانون أول 1978 صادق الشّعب الإسبانيّ على دستور 1978، والذي دخل حيز التنفيذ في    29 من نفس الشهر.
  • سنة 1981، قام العميد مولينا باحتجاز النواب أثناء محاولة انتخاب بديل عن أدولفو سواريث الذي استقال من رئاسة الحكومة، مما اقتضى تدخلاً حاسماً من الملك.
  • في 1982، فاز حزب العمّال الاشتراكيّ الإسبانيّ بالأغلبية المطلقة في الانتخابات التشريعية، مدشّناً بذلك الولاية التشريعية الثانية للديمقراطية الإسبانية الوليدة.

جاء الانتقال نحو الديموقراطية في إسبانيا ضمن ظروف تاريخية – خارجية وداخلية – جعلت هذا الانتقال ممكناً.  فمن ناحية الخارج، لا يمكن فهم الانتقال السلس نحو الديموقراطية بعد أربعة عقود من الديكتاتورية دون النظر إلى الجوار الإقليمي المؤثر في عملية الانتقال هذه، مثل:

     1- المحيط الديموقراطي، متمثلاً بالسوق الأوربية المشتركة التي شكلت قوة جذب وضغط في نفس الوقت.  
     2- تزامن سقوط الديكتاتوريات الأوربية، مثل: (البرتغال وثورة القرنفل، وسقوط حكم الكولونيلات في اليونان).
      3- ربيع براج وانتفاضة الطلاب في فرنسا.

ومن ناحية الدّاخل، يمكن القول أن الظروف الخارجية لن تكون مؤثرة بالقدر الكافي، ومنتجة، دون التلاقي مع ظروف داخلية مؤاتية ،عبرت عن نفسها في المجتمع الإسبانيّ، من خلال:  

  1. الحضور المعقول للقوى اليسارية في النقابات والجامعات.
  2. تبلور طبقات وسطى واعية سياسياً، ومنادية بالدمقرطة السلمية.
  3. ظهور تيارات إصلاحية في المؤسسة العسكرية.
  4. توريث خوان كارلوس من قبل فرانكو سنة 1969.
  5. افتتاح خوان كارلوس- بمجرد توليه الحكم-  سلسلة من الإجراءات الديموقراطية مسنوداً من المجتمع الدوليّ، ومن الطيف السياسيّ الإصلاحيّ،  والطبقات الوسطى الاقتصادية، وأوساط معقولة  من الإدارة الفرانكوية.

لقد أثمر تضافر العوامل الخارجية مع العوامل الداخلية عن إمكانية نجاح الانتقال الديموقراطي-السلمي، والذي وجد تجلياته في:  

  1. التحوّل داخل أحزاب المواجهة المتنافسة، الحزب الشيوعي عصب المقاومة الإسبانية من جهة، والحزب الشعبي، الداعم للدكتاتورية من جهة أخرى، إضافة للتغير في موقف الكنيسة.
  2. الدّور الذي قام به الملك خوان كارلوس على رأس دولة تحتفظ برصيد كبير للملكية. يقول خوان كارلوس: «كنت الشخص الضروريّ في المرحلة الضرورية وقمت بالعمل الضروري».
  3. احتضان أوروبا الديمقراطية لعملية التحول الديمقراطي في إسبانيا، وتأهيلها لعضوية السّوق الأوروبية المشتركة (الاتحاد الأوروبي لاحقاً) اقتصادياً، وسياسياً.

الدّروس المستفادة

بناءاً على قراءة جملة العوامل التاريخية - الموضوعية والذاتية-  التي قادت إسبانيا إلى هذا التحوّل الدّيموقراطي -السّلمي، نجد أنّ ثمّة شروط ضرورية  لابد من توفرها كي نستطيع الحديث عن إمكانية الانتقال الدّيموقراطيّ، هذه الشّروط تتمثل في:

  1.  وجود معارضة ديموقراطية، لأنه من غير الممكن أن تقوم معارضة غير ديمقراطية بقيادة عملية تحوّل ديمقراطيّ.
  2. أنْ تكون هذه المعارضة الدّيموقراطية موحدة ومستقلة، ( في إسبانيا كلّفت المعارضة ما سُميّ بـ  « لجنة التسعة» والتي ضمت شخصيات اختارتها المعارضة بمختلف ألوانها مهمة التفاوض مع السلطة حول مختلف القضايا ).
  3.  ضرورة وجود طرف إصلاحيّ داخل السّلطة يؤمن بعملية التحوّل الديموقراطي، تجلّى ذلك في إسبانيا بوجود الملك،إضافة للتغيرات في موقف الكنيسة.
  4. أهمية التّدرج السّلمي في عملية الانتقال، لأنّ وهم الانتقال دفعة واحدة كان يُمكن له أنْ يدمر إسبانيا. فقد تمّ التّوافق أولاً على قانون للانتخابات، وآخر للإصلاح السّياسي. وذلك قبل أنْ يتمّ إقرار الدّستور  بسنتين، وبعد ثلاث سنوات من وفاة فرانكو.
  5. وجود محيط إقليميّ ديموقراطيّ، مُحفّز ومساعد على عملية الانتقال الديموقراطيّ ( أوربا  الديموقراطية).

إن قراءةً متأنيةً للظروف التاريخية، إضافة للشروط الموضوعية والذاتية  اللازمة للانتقال نحو الديموقراطية، كانت، وستبقى ضرورية لأيّ سياسيّ جديّ، يناضل من أجل الحرية والديموقراطية في بلده والعالم.  

خاتمة

في زيارة إلى مدريد، قال لي المحامي الإسبانيّ نيكولاس سارتوريوس ( وهو مناضل قديم اعتقل أيام فرانكو لمدة ثماني سنوات،وساهم بشكل فعال في المرحلة الانتقالية) ملخصًا الخبرة الإسبانية في التحول نحو الديمقراطية: «إن السلطة لا تتغير عادة ولا تجنح نحو العقلانية إلا عندما يرغمها الناس على ذلك، وبدون تلك المقومات فإن السلطة لا تتغيّر». 
 وقال أيضاً: لا يمكن أن تبنى السياسة على الأحقاد..!