العربية لغة الذّكورة المتعالية وتأنيثها مدخلُ المساواة
المحامية زينة الخيّر- مركز المواطنة المتساوية
بطريقةٍ ما، فإنّ اللّغة تكتبنا بقدر ما نكتبها، وبطريقة أخرى، فإنّ اللّغة هي من تصوغ واقعنا وتُقولبنا وتُشكّل رؤانا. فللغة سلطة قادرة على أن تنظّم كلّ شيء تقريباً. وإن أردنا أن نعرف سبب تقدّم بعض المجتمعات وتراجع أخرى، أو أردنا تفسير هيمنة جنسٍ ما على آخر فلا بدّ لنا من دراسة لغته، من وضعها؟ وكيف؟ ولماذا وُضعت على هذا النحو لا ذاك؟ وعبر أيّ سيرورة تاريخيّة مرّت؟.
إن حصلنا على إجابات صحيحة عمّا سبق يمكننا أن نحرف المسار وربما أن نُغيّر القدر، وحتّى يمكننا ان نكون كمن يقرأ الغيب، ألا يقال أنّ أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل أن نصنعه؟.
تاء مربوطة ثمّ مسروقة
صحيح أنّ اللغة العربية قائمة على ثنائية المذكّر والمؤنّث فقط وهي خالية من الضّمائر المحايدة لكنّها لغة ماكرة حين تنحاز بمواضع كثيرة نحو المذكّر. ولعلّ أوضح مثال هو الاعتماد على قاعدة تغليب المذكر التي تعني ببساطة أنّ المؤنّث يمكن أن يُشمّل بالمذكر مهما بلغت نسبة أحدهما للآخر، هذا عدا عن حرمان الأنثى من "تائها" المربوطة عند تسلّم المناصب، فقد أجاز مجمّع اللغة العربية في القاهرة (بدورته الرابعة والأربعين) أن يوصف المؤنث بالمذكّر، فهي مدير، أو رئيس جلسة، أو نائب، أو قاضٍ.
وحرمت اللغة العربية الأنثى من تائها المربوطة حتّى في الحالات البيولوجية التي تنفرد بها فنحن نقول امرأة حامل وليست حاملة وقليلاً ما نستخدم تركيب امرأة حبلى، صحيح أنّ اللّغة في القواميس تُفرّق بين الحامل والحاملة، والمرضع والمرضعة، لتميّز ثبوت الصفة عن ثبوت الفعل، (المرضع في أشهر الإرضاع والمرضعة من ترضع الآن.. وهكذا) ولكن هذه قواعد جامدة اختبات في القواميس منذ قرون، وبقيت لنا دلالاتها الناتجة عن الاستخدام.
ولعلّ أساس هذه السّطوة الذكورية على اللّغة يعود إلى سيطرة الرّجل على معاقل الثّقافة والعرف الاجتماعي، ففي القِدم، الرّجل وحده هو من كان يقرأ ويكتب، ولو أراد مخاطبة الأنثى فهو ينطقها ولا يكتبها. وحين جاء عصر الكتابة للمرأة ظلت قواعد الإملاء كما هي، وهذا نتيجة الاعتياد الذّهني الذي تحوّل إلى اعتياد بصري، وأيضاً إضافة إلى أنّ كتب النحو لم تضمّ أسماء نساء ساهمن في بناء النّظرية النّحوية ومصطلحاتها، وتفرّد النُّحاة الرّجال بالقيام بذلك، وبالتالي أصل قاعدة المذكّر ليس علمياً أو لغوياً لا مفرّ منه، بل هو ببساطة مظهر ثقافي لسيرورة مجتمعية.
لغة ذكورية؟.. معاذ الله
إنّه جهلٌ بقواعد وفقه اللّغة العربية، فهي ليست ذكورية وليست حتّى محايدة، بل هي لغة تنحاز للأنثى..، هكذا يدافع البعض عن اللّغة العربية رافضين "تهمة" تحيّزها الذّكوري، فالنّحاة العرب وإنْ رأوا أنّ التّذكير هو الأصل والتّأنيث هو الفرع، كما خُلقت حواء من ضلع آدم، إلاّ أنّ العربية وحدها من منحت المؤنّث خطاباً يخصّه وحده، وبقي خطاب المذكّر فيها شاملاً للجنسين دون تخصيص. فمثلاً حين نقول الحاضرين نعني الذكور والإناث، أمّا حين نقول حاضرات فهذا لا يشمل الذكور إطلاقاً.
والقاعدة اللغوية التي صاغها النحاة تقول: (إذا اجتمعت ألف امرأة وبينهنّ صبي قد بلغ فخطابهن ّبالمذكّر)،
ولأنّ اللغة العربية هي لغة كتاب الله الذي نزل في أكمل التراكيب النّحوية والصّرفية فلا يمكن أن تكون ذكورية، وحين يقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا" لا يقصد هنا مخاطبة الرّجال فقط، وكلمة الذين ليست مذكّرة بل هي محايدة، وإلا ستُفهم الآيات التي تشبهها كأنّها موجهة للرّجال فقط دون النّساء، وهذا أمر غير صحيح، وبالتالي لا ضيرَ من الاعتماد نحوياً على قاعدة المذكّر كون الأنثى موجودة بالمضمون، وبذلك أتى التأنيث المعنوي مكان التأنيث اللّفظي والكتابي، كل هذا لهو ضربٌ من إبداع اللّغة العربية التي تعتمد شمولية اللفظ لأجل الإيجاز وعدم هدر الأصوات. وبذلك يرى أنصار هذا الرأي أنّ الجنس الموجود باللغة هو جنسٌ نحويّ ليس إلاّ، وهو بذلك يخلو من أية غاية استعلائية، وليس فيه استغناء عن وجود المرأة، وبالتالي فالعربية ليست بحاجة لحركات تصحيحية جندرية، بل هي تحتاج لحسن نيّة وتفكّر من قبل مستخدميها الإناث قبل الذّكور.
إنس + إنس = إنسان..
لعلّ أهمّ ما نخرج به من أصحاب الرأي السّابق أنهم تفوّقوا على الفرنسيين بالحذلقة اللغوية، فالعربية لم تكن يوما حيادية لا شكلاً ولا مضموناً، فتاريخ اللّغة هو تاريخ الوعي الاجتماعي لناسها، ولطالما كان الرّجل هو المهيمن بالمجتمع العربي، وهو من امتلك السلطة، وبالتالي امتلك اللغة فاستخدمها كأداة لصوغ مفاهيمه وتصوراته بما يتوافق معه، وهذا الاستخدام الأحادي شكّل الواقع مع الوقت، وفصّل الوعي، وبنى محدّدات ثقافية أخذت معانٍ ودلالات خاصة أخرجت التنوع الجنسي من المجتمع. ومن هنا لا يمكن ـ كما لا يجب ـ اعتبار اللغة أداة حيادية، أو اعتبار أن كلّ ما ينطبق على الرّجل ينطبق على المرأة ويشملها، لأن هذا سيكون تثبيتًا للهيمنة الذكورية.
أمّا القول إنّ الأصل في اللغة العربية هو المذكّر، بينما المؤنث هو الفرع، مثل خُلق أحدهما من ضلع الآخر، فهذا إمعان في الذكورية، ويمكننا الاستعانة بالسيّد قطب في كتابه (في ظلال القرآن) حيث يقول: "أنّ كلّ الروايات التي جاءت عن خلقها (حواء) من ضلعه (آدم) مشوبة بالإسرائيليات، ولا نملك أن نعتمد عليها وليس للضلع ذكر في أية سورة قرآنية، وقد تخبطت البشرية في هذا التيه طويلاً وجرّدت المرأة من كلّ الخصائص الإنسانية وحقوقها تحت تصوّر سخيفٍ لا أصل له، ونسيت أنّها إنسانٌ خلقت لإنسان".
من هنا، من هذا التصوّر استنبط النّحاة العرب قاعدة الأصل المذكّر والفرع المؤنث، ولكنّ الكارثة تكمن بتجاهلهم للمرجع، بتجاهلهم لآية من سورة النحل التي تقول" خُلق الإنسان من نطفة" وإن حللنا كلمة إنسان ألا يمكننا أن نراها معادلة رياضية بسيطة لا تحتوي على أي مجهول، إنسان = إنس + إنس، كما نثنّي أية كلمة أخرى مثل قلم +قلم = قلمان، أو علم + علم = علمان، وحتّى رجل +رجل= رجلان. وإن صحّ ذلك، ألا نسنتج أنّ المرأة (وفق المرجع الدّيني نفسه) خُلقت من نطفة (كبقية خلق الله) ولم تُخلق من ضلعٍ (من خُلق من نطفة)؟.
أي أنّ المرأة ليست ضلعاً من آدم، ولا هي ناقصة. والمؤنّث ليس فرعاً من المذكّر، ولا حاجة طارئة بطبيعته.
لكنّ السّؤال: كيف حصل هذا؟ كيف تقدّم التّأويل على المرجع؟ ألا يُعدّ هذا تحريفاً للقاعدة التي تعتبر القرآن هو النصّ الصّحيح المُجمَع على المحاججة به في اللّغة العربية نحواً، وصرفاً، وعلمَ بلاغة؟.
والخطورة تكمن بتحوّل التّشبيه إلى حقيقة، فتحوّلت الأنثى من إنسان كاملٍ إلى ضلع إنسان، وانعكس ذلك على المجتمع بما فيه من هيمنة ذكورية تُؤصّل عرفاً وشريعة تضعان المرأة بمرتبة أدنى.
والطرح السّالف الذي ينادي باستخدام حسن النية في اللّغة لا يُعدّ بديلاً عن الحرفية والدّقة بالكتابة هذا أوّلاً، كما أنه غير ممكن ثانياً، إذ أنّه وفقًا لكتاب اللّغة وقوانين الجنسانية gender law and language)) فإنّ القوانين التي تفرض العقوبات والواجبات تُطبّق على الرّجال والإناث. أمّا القوانين التي تمنح الواجبات والحقوق والفوائد فهي تطبّق على الرّجال فقط. ذلك لأنّها فُسّرت على نحو تمييزي دون "حسن نية".
ألا يعدّ كلّ ذلك عنفاً حقيقياً، أو رمزياً في أحسن الأحوال، أليس تمييزاً ضدّ المرأة؟.
لكلّ ما سبق نحن بحاجة لجندرة اللّغة العربية، لأنّها عملية تطوير فكري ومجتمعي لتحقيق المساواة بين الجنسين، وتجنّب القوالب النّمطية، وليست مجرّد تصحيحٍ تاريخي، فالتّمثيل اللّغوي العادل سيؤدي إلى تطبيقٍ وتمثيلٍ اجتماعي عادلين، على الأقلّ هكذا أثبت التّاريخ حين نالت النساء القاطنات في الجانب السويسري الناطق بالفرنسية الحقّ في التصويت والمشاركة بالانتخابات بقرار صادر من المحكمة الدستورية بناء على حجج وأدلة لغوية من الدّستور.أجل، حججٌ لغوية وحسب!.