القوانين المكمّلة للدّستور

الإصدار الأول 03/03/2018

القوانين المكمّلة للدّستور

 

المحامي عارف الشعَّال- مركز المواطنة المتساوية

 

تمهيد

يَضمُّ الدّستورمجموعة قواعد حقوقية تحتل مكان الصدارة في الدولة، وتُعتبر الأسمى شأناً فيها، لأنّها تُحدّد طبيعة الدّولة نفسها، وتُعيّن شكل نظام الحكم فيها، وترسم الخطوط الرّئيسة لصلاحيات السّلطات العامة الكبرى فيها، وسير أعمالها وعلاقاتها ببعضها البعض، وبالمواطنين.

ومن المعلوم أنّ الدّستور مهما اتسع لا يمكنه الإحاطة بتفاصيل هذه المجموعة الحقوقية وجزئياتها، فيُعهد للشّعب عبر ممثليه المنتخبين للمجلس النيابيّ، والذين سماهم "السّلطة التّشريعية"، بوضع بقية التّفاصيل التي رسم الدّستور خطوطها العامة، عبر قوانين تُكمّل الدّستور يصدرها هذا المشرّع، وتعتبر قوانيناً أساسيةً في الدّولة.

 

هدف القوانين المكمّلة للدّستور

هذا النّهج الذي تلجأ له الدّساتير عادة بإناطة وضع تفاصيل المبادئ التي تطرّقت لها لقوانين أساسية، سائداً في كافة دساتير العالم، ففي فرنسا على سبيل المثال، وبعدما حدّد دستور 1958 مدة ولاية رئيس الجمهورية بخمسة سنوات، وبأنّه يُنتخب بالاقتراع العام المباشر، وبعدم أحقيّة أي فرد شغل المنصب لأكثر من ولايتين متعاقبتين، ترك في المادة السّادسة منه لقانون أساسي تنظيم طريقة انتخابه.

وفي سورية نصت المادة 86 من دستور 1950 على:

(يُنظّم قانون ذو "صفة دستورية" أُصول اتهام ومحاكمة رئيس الجمهورية أمام المحكمة العليا)، ونصّت المادة الثامنة من دستور 2012 على أنّه (يُنظّم القانون الأحكام والإجراءات بتكوين الأحزاب السّياسيّة).

 

ميزات القوانين المكمّلة للدّستور

هذه القوانين المكمّلة للدّستور، وبغية تمييزها عن القوانين العادية اصطُلح على تسميتها في غالبية الدّساتير المقارنة بـ "القوانين الأساسيّة" كالدّستور الفرنسيّ والإسبانيّ، بينما أطلق عليها الدّستور الجزائريّ تسمية "القوانين العضوية"، والدّستور المغربيّ "القوانين التّنظيمية".

عدا عن التسمية التمييزية لهذه القوانين، ونظراً لطبيعتها المكمّلة للدّستور، ومنعاً من العبث أو التّلاعب بها من قبل أغلبية برلمانية مُعينة، وضماناً لاستقرارها، أخضعتها الدّساتيرلمنظومة من الإجراءات المعقّدة تجعلها تتصف بنوع من الجمود، وتتميزعن إجراءات إصدارالقوانين العادية، ودون أن تصل إلى صرامة الإجراءات المُقرّرة لتعديل الدّستور، فهي بنظر الفقه الدّستوريّ لها وظيفة سياسية تهدف للحدّ من صلاحيات البرلمان، وتقييد نشاطه عمداً، وحصر مجالات التّشريع المخولّة له بالنسبة لهذه القوانين كونها تتعلق بالمجالات الاستراتيجية والحسّاسة في الدولة.

 

آلية إصدار القوانين المكمّلة للدّستور

تتراوح الإجراءات الصارمة التي تضعها الدّساتير عادة لإصدار أوتعديل هذه القوانين، بين اشتراط أغلبية نيابية أكثر من الأغلبية المطلوبة عادة للقوانين العادية، وغالباً ما تكون موافقة الأغلبية المطلقة لأعضاء البرلمان عليها، أي نصف النواب زائد عضو واحد على الأقل، وليس أغلبية الحضور في جلسة التصويت. أو إخضاع هذه القوانين لرقابة قضائية تسبق إصدارها من قبل القضاء الدّستوريّ في البلاد ليُدقّق في مدى مطابقتها للدّستور، أو كلاهما معاً.

ففي فرنسا يشترط دستور 1958 لإصدار هذه القوانين سلوك الطريقين معاً، إذْ تنصّ المادة 46 من الدّستور الفرنسيّ على وجوب عرض القوانين الأساسية على المجلس الدّستوريّ قبل إصدارها ليطابقها مع الدّستور، إضافة لموافقة الأغلبية المطلقة لغرفتي البرلمان وهما الجمعية الوطنية، ومجلس الشيوخ.

وعلى غرار هذا النّهج سار الدّستور الجزائريّ الصادر عام 1996، حيث نصَّت المادة 123 منه على شرط خضوع "القانون العضويّ" لمراقبة مدى مطابقته مع الدّستور من طرف المجلس الدّستوري قبل إصداره، وعلى مصادقة الأغلبية المطلقة للنّواب عليه، ولكنّه زاد في الأغلبية المطلوبة للمصادقة عليه في الغرفة الثانية من البرلمان "مجلس الأمّة" فجعلها ثلاث أرباع أعضائه.

بينما اقتصر الدّستور المغربيّ الصادر عام 2011، في المادة 132 منه على وجوب إحالة القوانين التّنظيمية إلى المحكمة الدّستورية قبل الأمْر بتنفيذها لتبتَّ في مدى مطابقتها للدّستور.

أمّا الدّستور التونسيّ الصادر مؤخراً عام 2014 فقد اقتصر في المادة 64 منه على الاكتفاء بمصادقة مجلس النواب بالأغلبية المطلقة لأعضائه على مشاريع القوانين الأساسية، وبأغلبية أعضائه الحاضرين على مشاريع القوانين العادية، ولم يشترط الرقابة القضائية المسبقة على دستورية هذه القوانين.

 

نطاق القوانين المكمّلة للدّستور

في الواقع تختلف المجالات التي تتناولها هذه القوانين من بلد لآخر، وعادة ما تنصّ الدّساتير على إطار عام لنطاق هذه القوانين، إضافة لمواضيع أخرى حصرية ينصّ عليها الدّستور نفسه، كما فعل الدّستور الإسبانيّ الصادر عام 1978، في المادة 81 منه حيث نصَّ على أنّ القوانين الأساسية هي التي تتعلق بتفصيل الحقوق الأساسية والحرّيات العامة، والتي تصادق على أنظمة الحكم الذّاتيّ وقانون الانتخابات، إضافةً للقوانين المنصوص عليها في الدّستور.

وكذلك فعل الدّستور الجزائريّ الصادر عام 1996 حيث نصَّ في المادة 123 منه على أنّه إضافةً للمجالات المخصّصة للقوانين العضوية المنصوص عليها بالدّستور، يُشرّع البرلمان بقوانين عضوية في مجالات تنظيم السّلطات العامة، والانتخابات، والأحزاب، والإعلام، والتنظيم القضائيّ، والقوانين المالية، وقوانين الأمن الوطنيّ.

أمّا الدّستور التونسيّ الصّادر عام 2014 فقد حصرت المادة 65 منه كافة المسائل التي يجب أن تتخذ شكل قوانين أساسية، وهي:

(الموافقة على المعاهدات، تنظيم القضاء والإعلام والأحزاب والنقابات والجمعيات، وتنظيم الجيش والأمن، وقانون الانتخابات، والتمديد لمجلس النواب ورئيس الجمهورية، والحرّيات وحقوق الإنسان، والأحوال الشخصية، والواجبات الأساسية للمواطنة، والسّلطة المحلية، وتنظيم الهيئات الدّستورية، وقانون الميزانية).

 

في الواقع لا يمكن حصر المسائل التي يمكن أن تشملها القوانين الأساسية، فهي تختلف من بلد لآخر، وعلى الرّغم من أنّها تشمل عموماً مجالات الأحزاب، والانتخابات، والإعلام، والتّنظيم القضائيّ، والقوّات المسلحة، والإدارة المحلية. نلاحظ أنّ بعض البلدان لها خصوصية معينة تتطلب عناية مثل هذه القوانين، كمسائل الأحوال الشخصية التي نصَّ عليها الدّستور التونسيّ. أو تلك التي نصّ عليها الدّستور الإسبانيّ والخاصّة بالتنازل عن العرش، والتخلي عنه، والتعاقب عليه (المادة 57)، أو شروط وطريقة إجراء مختلف أشكال الاستفتاء المنصوص عليها في الدّستور (المادة 92)، وتنظيم حالات الاستنفار والطوارئ (المادة 116).

 

في سورية

في الواقع لم يسبق لسورية في دساتيرها المتعاقبة كافة، أن عرفت مثل هذا التّقسيم للقوانين بين عادية وأساسية، ولعلّ هذا الأمر من أسباب عدم سمّو الدستور في بلدنا، ومن أسباب التنافر بين المبادئ الدّستورية والقوانين السارية. كالتّناقض الملفت بين نصّ المادة 132 من دستور 2012 الذي يقول إنّ السّلطة القضائية مستقلة، وبين قانون السّلطة القضائية الذي أناط به الدّستور تشكيل مجلس القضاء الأعلى، حيث جعل القانون وزير العدل نائب رئيس المجلس، وهو الذي يرأسه عملياً، وبذلك جعل أحد أفراد السّلطة التّنفيذية يرأس المجلس الذي يتولى شؤون السّلطة القضائية، ما يمكن اعتباره خرقاً دستورياً واضحاً ينال من استقلال القضاء المنصوص عليه صراحة بالدّستور.

وهذا ما يدفعنا بشدة للمناداة بوجوب الأخذ بهذا التقسيم في أيّ إصلاحٍ دستوريّ مقبل لسورية، مع إحاطة القوانين الأساسية بضمانات تجعلها أكثر صلابة لجهة الإصدار، أو التّعديل، أو الإلغاء بحيث تخضع لشرطيّ الأغلبية النيابية المرتفعة، والرقابة القضائية المسبقة عليها من لدن محكمة دستورية عليا فعالة ومتوازنة.

ناهيك طبعاً عن ضرورة التّفصيل أكثر بالمبادئ الدّستورية الأساسية، كالنصّ على تشكيل مجلس القضاء الأعلى ومعايير العضوية في صلب الدّستور نفسه.

وبالأخذ بمنظومة القوانين الأساسيّة، والتّوسع بالمبادئ الدّستورية الرّئيسة، نكون قد وضعنا لبنة متينة في تكريس مبادئ عليا جوهرية نفتقدها في سورية كاستقلال القضاء، وسيادة القانون، وسمّو الدّستور.