اللانمطية والمساواة

مقال - رأي

اللانمطية والمساواة

المحامي حسّان الشحف

 

"ذهب الرّجال إلى الحرب، ودخلت النّساء سوق العمل"، كان هذا هو التصوّر السائد عن بداية تحرّر المرأة في أوربا خلال تعمّق نمط الإنتاج الرأسمالي والثورة الصناعية. وليس التدقيق في مدى صحة هذا الرأي هو المقصود هنا، ولكنّها مقاربة قفزت إلى ذهني منذ مدّة وأنا أرى مجموعة من النّساء يعملن في حفريات طرقية عند نفق العباسيين في قلب العاصمة دمشق. نساءٌ بالزّي التقليدي للرّيف الدمشقي، يحملن معاولَ أو (كريكات)، ويقمن بأعمال الحفر والترحيل. هذا المشهد أيقظ  في ذهني الكثير من الأسئلة: هل ذهب الرّجال جميعهم إلى الحرب؟ أم أنّ مؤتمرات وورشات المجتمع المدني، المتعلّقة بحقوق المرأة والمساواة الجندرية، وقرار مجلس الأمن رقم 1325 واتفاقيتا سيداو وبكين، بدأت تظهر نتائجها في المجتمع السوري؟. ثمّ نسيت تلك الحادثة والتساؤلات التي نتجت عنها وغرقت في هموم الحياة اليومية كأيّ موطن سوري، ولكنّ السؤال عاد مجدّداً، وبشكل مُلحٍ، حين رأيت عاملات نظافة يجمعن القمامة في مدينة جرمانا، ولم أُفاجئ بعد أيامٍ حين نشرت بعض المنظمّات النسوية تقاريراً تُشيد بتلك النّسوة، وتعتبر أنّ عملهنّ هذا كسرٌ للنمطية، وانتصارٌ لأفكار تحرّر المرأة، وخطوة هامّة نحو المساواة الجندرية.

مساواة أم استغلال؟

كان يجب  أن لا يثير عمل المرأة اللانمطي أي استهجان ، إذ من الطبيعي أن تعمل المرأة في أعمال البناء، وفي ورشات الميكانيك، أو حتّى أن تكون سائقة قطار أو رافعة. كما يمكن أن تكون أيضاً، مديرة شركة أو مالكة لها، رئيسة وزراء أو رئيسة جمهورية. ولا يمكن في هذا السياق أن أجادل في ضرورة رفض تقسيم العمل بناءً على الصورة التقليدية للمرأة، إذ ليس هناك من مبرّرٍ علمي أو عملي يمنعها من أداء الأعمال التي كانت حكراً على الرجال. ولكنّ طريقة تعاطينا مع عملها من هذه الزاوية ليس خالياً من آثار الذهنية الأبوية والذكورية، طالما مازلنا نقول بوجود أعمال نسائية نمطية وأخرى غير نمطية، تبعاً للنوع الاجتماعي.

وأفترض هنا أنّ الجهد المبذول، لدعم هذه الأعمال اللانمطية، ما هو إلاّ محاولة لتكريس مفهوم المساواة في المنظومة الذهنية للأجيال القادمة، وتلك المحاولة ليست هدفاً بحدّ ذاتها، وليست هي المساواة المنشودة، فالمساواة والتحرّر يتحقّقان عندما نتوقّف عن النّظر للبشر وفق تقسيمات نمطية مرتبطة بمفاهيم اجتماعية. فالنّظر إلى اللانمطية، خارج سياق الحقوق والحريات والنظرة الكلية لحقوق الانسان، واعتبار ذلك غاية بذاتها، سيؤدي إلى تسطيح مفاهيم المساواة والعدالة.

المرأة هي الوسيلة التي استخدمها الجميع لتحقيق أهدافهم

علينا ألاّ ننسى حجم  الأعباء الكبيرة التي وقعت على كاهل المرأة السّورية خلال الثّورة/ الحرب، حيث كانت المرأة  الوسيلة التي استخدمها الجميع لتحقيق أهدافهم. وبغض النظر عن مدى شرعية تلك الأهداف أو صوابيتها، فقد كانت المرأة ومازالت وسيلة لتحقيقها، ففي المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة، قامت المرأة، بالإضافة لأعمالها وواجباتها التقليدية، بدور ساعي البريد وناقلة المؤن والذخيرة أحياناً، كما قامت بدور الطبيبة والممرضة وغير ذلك. و في مناطق سيطرة الحكومة قامت بسدّ الفراغ الذي خلفه النقص الحادّ بأعداد الذّكور في الوظائف العامة وبعض القطاعات الأخرى، نتيجة هجرتهم والتحاقهم بالخدمة العسكرية، أو تخفيهم خوفاً من الاعتقال أو السّوق للخدمة، ممّا فرض على الدولة أن تستعين بالنساء لملء الشواغر الوظيفية في المؤسّسات والقطاعات العامة والخدمية، وهو ما فرض على المرأة الدّخول إلى سوق العمل والقيام بأعمال وأدوار جديدة .

وخلال السنوات الماضية استغل أرباب العمل حاجة المرأة وضعف موقعها فاستعبدوها في أعمال مجهدة ومقابل أجور متدنية، وهو ما حمّل الكثير من النساء العاملات أعباءً إضافية أضيفت إلى الأعباء الناتجة عن أدوارهن التقليدية المرتبطة بالأسرة والمجتمع، حيث  يندر أن ترتاح إمرأة عاملة من ممارسة تلك الأدوار، في ظلّ تمسك أغلب الرّجال بأدوارهم النمطية التي تعفيهم من مساندة النساء في بعض المسؤوليات، كتلك المتعلقة بالمنزل أو العناية بالأبناء .

وقد يظهر استغلال المرأة في ميادين أخرى، كاستغلالها سياسياً من قبل بعض الأحزاب والمنظمات والهيئات، الساعية لزيادة تمثيلها عبر الإعتماد على النساء، إذ تتعامل معهنّ كمجرد أعداد تحقق مكاسب تمثيلية، متماشية في ذلك مع رغبة المجتمع الدولي ومنظماته في دعم التمثيل النسائي من خلال فرض الكوتا النسائية. وإن كانت هذه التغيرات ستؤدي إلى كسر الذهنية النمطية وتطوير قدرات المرأة، من خلال مراكمة خبرات تجارب لم يكن بإمكانها خوضها، ولكن رغم ذلك لا يمكننا أن نغضّ الطرف عن اجتزاء تطبيق مبادئ حقوق الانسان، والانحدار بها إلى تطبيقات نظرية تجردّها من جوهرها.

مساواة في الاضطهاد

 حين لا تراعي المساواة الحقوق الإنسانية وقيم الحرية والعدالة ستصبح مبدأً ظالماً، ولأنّها لا تراعي ذلك لن تكون إلاّ مساواة في الاضطهاد، فلا معنى لأن تكون المرأة متساوية مع رجل مهزوم، مازال حبيس دوره الاجتماعي التقليدي، ولا خير في مساواة لا ترتبط بالحرية، لأنّ المساواة في الاضطهاد وفي الجهل وفي توزيع الفقر ما هي  نوع من الظلم ، وهذا الرأي ليس انقلاباً على المساواة بل محاولة للعودة إلى نقطة الصراع الأولى في مواجهة الظلم، فالقضايا الجزئية يمكن أن تسمح بتبريره، والالتفاف حوله بدلاً من مواجهته.

صورة الملف عن موقع: sputniknews