المدينة..بين الذاكرة الخضراء والحاضر الرمادي

المدينة.. بين الذاكرة الخضراء والحاضر الرمادي

المحامية شام الميداني- مركز المواطنة المتساوية

 

في يومياته المنشورة تحت عنوان «حوادث دمشق اليومية» يصف أحمد البديري تفاصيل سيران حضره مع جمع من أصدقائه في عام1750: «وجدنا النساء، وربما كانوا في الكثرة أغلب من الرجال، جالسين على شفير النّهر، وهم حول المرجة والتكيّة بناحية الشّرف المطلّ على المرجة طول النّهار بالمأكل والمشرب والتتن والقهوة، كما تفعل الرجال. وهذا الشيء ما رأيناه، ولا الذي هم من قبلنا، إلاّ في هذا الزّمان».

حتّى نهايات القرن الماضي، كانت المساحات الخضراء في دمشق تمثل مساحاتٍ آمنة للنّساء، وفضاءً للحرّية والتنزّه الدّائم، وطريقةً للتواصل الاجتماعي، سواء تواجد فيها الرّجال أمْ لم يتواجدوا. لكنّ العقود الأخيرة أحدثت تغيّراً مؤلماً ومؤذياً في تلك المساحات فبدأت تضيق وتنعدم لتحلّ محلها الأبنية الإسمنتية التي راحت تجتاحها وتنهبها يوماً بعد يوم حتى تلاشى معظمها، ولمْ ينجُ منها سوى بضع أراضٍ صغيرة ومتفرقة على أطراف العاصمة كمنطقة الرّبوة. لكنّ هذه المساحات الناجية، والتي صارت ملاذاً لكثيرٍ من العائلات آنذاك، تعرّضت هي الأخرى فيما بعد لاحتلالٍ آخر من قبل التّجار المستثمرين، ورؤس الأموال، لتغلق أبوابها بوجه كثيرٍ من العائلات الفقيرة، وتفقد دورها التّاريخي كمساحات صديقة متاحة لجميع النّاس بعد تحوّل معظمها إلى مطاعم ومنتزهات يدخلها ميسورو الحال. ومع مرور الوقت باتت حكراً على الأغنياء ورجال الأعمال الذين يزورونها كل حين، فيما يقضون عطلهم الصيفية في أماكن أخرى توصف بـ «السّياحية» كبلودان والزبداني، وهي أماكن كان السّائح الخليجي أو العربي، قبل عام 2011، ينعم بطبيعتها وسحرها أكثر من أبنائها الأصليين، بينما حُرم كثيرٌ من ذوي الدّخل المحدود من أبناء سورية من دخولها، وباتوا يكتفون بزيارة أطراف منطقة الغوطة، حيث نجت بعض الأشجار من سطوة العمران.

لطالما تغنّى الشّعراء والمؤرخون في الماضي بغوطة دمشق وطبيعتها بوصفها «جنة أرضية»، و«رئة دمشق» و«سيران الفقراء»، لكن في العقود الماضية قضت جيوش الإسمنت  الزاحفة على معظم بساتينها، لتصبح معظم مدنها وبلداتها ملاصقة لبعضها البعض. فنجد منازل مدينة المليحة تقترب من منازل جرمانا، بعد أن كانت تفصلها مئات البساتين، فيما التصقت مدن أخرى بالعاصمة، ما أدّى لاتساع دائرة السّجن الاسمنتي. وما نجا من تلك البساتين كان فريسةً لنيران الحرب التي أحرقت معظم الأشجار المتبقية وحولتها إلى حطبٍ، وهكذا أُصيبت رئة دمشق بالسّرطان وتوقفت عن مدّها بأوكسجين الحياة لتختنق كلّ يوم.

مدن الازدحام والتلوّث والعشوائيات

رغم تزايد أعداد سكانها أضعافاً مضاعفة خلال السّنوات الأخيرة، بقيت شوارعها ومرافقها العامة وبناها التّحتية على ما كانت عليه قبل سنوات طويلة، فالعاصمة المهيئة لإسكان أقلّ من مليون شخصيسكنها اليوم أكثر من 6 ملايين، والشّوارع المصممة لاستقبال بضعة آلافٍ من السيارات باتت تضجّ بأكثر من مليون سيارة.

 أناسٌ يسيرون مع السّيارات وبينها، تُعرقل سيرهم وتحتل أمكانهم في السّاحات وعلى الأرصفة. القمامة  تفرض تواجدها في كلّ مكان كمتحدث أساسيّ باسم المدينة. معاناة يومية في التّنقل نتيجة الازدحام المروريّ الخانق وعدم توفر خياراتٍ بديلةٍ كالقطارات والميترويات. عوامل كثيرة جعلت دمشق تُصنَّف كأكثر مدن العالم تلوّثاً. ونتيجة زيادة الكثافة السكّانية في السّنوات الماضية وُلدِت مناطق واسعة من العشوائيات التي تفتقر إلى أيّ معايير صحية أو جمالية لتتحوّل بعض أحياء دمشق وما حولها إلى خزانات بشرية يطغى عليها اللّون الرّمادي والتشوّه البصري. كما أثَّر المدّ العشوائي على كثيرٍ من المساحات الصديقة للبيئة فاحتلّ معظم أماكن الحدائق والأراضي الزّراعية وأجزاء من الشّوارع، لتنحسر مساحات السكّان، في بعض الأحياء، إلى داخل بيوتهم فقط، ما أدّى لانحسار بعض العلاقات الاجتماعية ومساحات التّواصل بين النّاس، خاصة أنّ منازلهم الضيقة لم تعد تتسع للضيوف. إضافة إلى ذلك، ألحق هذا الواقع أذىً وضرراً كبيراً بأجيالٍ كثيرة من الأطفال، إذ سرق أماكن اللعب منهم، لتنحصر في زوايا حاراتهم الضيقة -حيث يجلس معظم السّكان أمام بيوتهم- أو في الشوارع التي لا تكاد تتّسع للمارّة، ما جعلهم ضحايا دائمين، معرّضين في كلّ لحظة لاستياء السكّان، وللشتم والطرد والضرب أحياناً من قبل جيران لا يملكون مساحة للتنفّس حتّى لأنفسهم ليسمحوا بإعطائها لغيرهم.

 ومع حلول العام 2011، ازداد الواقع المكانيّ سوءاً، فتفاقمت ظاهرة انتشار العشوائيات، نتيجة غياب الرّقابة والقانون، وبروز أصحاب السّلطة والمتنفذين والمرتشين، الذين سمحوا ببناء أبنية مخالفة لا تُراعي أبسط معايير الأمان والصّحة، لتنهض حارات وأحياء عشوائية جديدة، وترتفع طوابق أخرى لبنايات غير مجهّزة لزيادة أحمال إضافية، ما قد يجعلها عرضةً للسّقوط أو التّداعي في أي لحظة.

وقد أدّى ارتفاع وتيرة الحرب إلى إغلاق الكثير من الحدائق العامة لدواعٍ «أمنية»، وتقييد الحركة في بعض السّاحات والشّوارع العامة، أو اغلاقها بالحواجز الإسمنتية، كساحة باب توما، وساحة الجامع الأموي التي كانت تمثل فضاءً رحباً لأبناء دمشق، وخاصّة للنّساء. كما ازدحمت بعض الحدائق بالعائلات الهاربة من مناطق الحصار والموت، لتُصبح بمثابة مأوىً لهم و لبعض المتسولين وأطفال الشّوارع الذين تضاعفت أعدادهم خلال سنوات الحرب السّابقة.

تلك الظروف جعلت قسماً كبيراً من سكّان دمشق ينسون شكل السيران أوالنزهة، فباتوا يلجؤون إلى الجلوس على الأرصفة وجوانب الطرقات وأسوار الحدائق المغلقة أو يكتفون بالمشي في الشّوارع العامة وذلك كتعويض عن غياب مساحات التنفّس، فيما اعتكف آخرون في بيوتهم مفضّلين العزلة على التلوّث السّمعي والبصري والنّفسي. وكان لبعض النّساء النّصيب الأكبر من تلك العزلة نتيجة غياب معظم المساحات الآمنة لديهنّ، فخروجهنّ من المنزل قد يجعلهنّ عرضة للعنف النّفسي والتحرّش الجنسي في ظلّ انتشار الكثير من حملة السّلاح ومافيات الحرب وظهور حالات الخطف والاتجار بالنّساء في كثير من المناطق.  

كما فاقم نزوح ملايين النّاس إلى دمشق وضواحيها ظاهرة الازدحام والضّجيج، وحمَّل بعض مناطق العشوائيات والأحياء الفقيرة، التي بالكاد تتحمّل سكاّنها، أعباءَ إضافية تفوق طاقتها المكانية لتتحوّل إلى مستوعبٍ لملايين النّازحين، فيما منع عليهم السكن في المناطق الراقية التي يسكنها المسؤولون والأثرياء والتّجار، وذلك لأسباب مناطقية وسياسية وطبقية، وهو أمرٌ دعّم فكرة أنّ بعض الأمكنة هي حكر على بعض فئات المجتمع.  

من جهة أخرى، أثّرت حركة النزوح على العملية التّعليمية حيث تحولت مئات المدارس إلى مراكز ايواء وأصبحت مدارس أخرى تستوعب أعداداً كبيرة من الطلبة تفوق قدرتها الاستيعابية، لنجد صفوفاً مخصّصة لعشرين طالب تحتوي على أكثر من خمسين، أو نجد أربعة طلاب يجلسون في مقعد يتسع لطالبين، فيما يجلس أخرون على الأرض أو يقفون على أقدامهم.

هل ستحقق إعادة الإعمار عدالةً مكانية؟

البيوت التي كان بناؤها حلماً لكلّ ساكنيها، والتي بُنيت بتعب وعرق سنين طويلة وأكلت من أجساد أصحابها لتُنبى، دمّرت الحرب الكثير منها، وتشرّد سكّانها تاركين خلفهم ذاكرتهم وتاريخهم، ذكرياتهم وتفاصيلهم الخاصة، ليعيشوا غرباء ومشرّدين في أماكنَ بديلة بظروفٍ غير إنسانية تُميتهم كلّ يوم آلاف المرات، حتّى باتت جلّ أحلامهم اليوم تقتصر على العودة لأمكنتهم الأصلية حتّى وإن كانت مدمّرة، لكنّ تحقيق تلك الأحلام بات متعلّقاً بخطّة إعادة الإعمار. والخطّة تلك قد لا تضمن لهم عودة مشابهة لما كانوا عليه سابقاً، وربّما تشوّه هوية أماكنهم وتنهب ذاكرتهم المكانية لتبني على أنقاضها أماكن جديدة غريبة عنهم، كما قد تغيّر لهم جغرافية المكان الذي ينتمون إليه، أو تسلبهم ملكية عقاراتهم، خاصّة بعد صدور القانون رقم 10 الذي يضاعف من خطر  تهديد حقوق العديد من السّوريين والسّوريات بعقاراتهم، لا سيما اللاجئين منهم خارج القطر.

وبالرّغم من أنّ القوانين تضمن للسّوريين المتضرّرين حقّهم بالاطّلاع على خطّة إعادة الإعمار، كحقّهم بالمشاركة في الدّستور والقوانين، وأن يكونوا شركاء فاعلين فيها، يبقى التخوّف من مصادرة تلك الحقوق مسيطراً على عقول الكثيرين منهم، بالإضافة لمخاوفهم من فكرة سلخهم عن أماكنهم الأصلية وتحوّل أماكنهم المؤقتة إلى دائمة، ليُفتح الباب أمام كثير من الأسئلة الملحّة والمعقدة، الباحثة عن جواب شافٍ ومطمئن:
-متى ستتم إعادة الاعمار وكيف؟، وهل سيتحقق حلم العودة المنشود؟.

-هل ستراعي خطة الإعمار الذّاكرة المكانية للنّاس، وتأخذ برأي أصحاب البيوت المدمّرة فيما يخصّ الهوية الجديدة لمكانهم، وهل ستحترم رغباتهم ومطالبهم؟.

- هل تُراعي القوانين التّنظيمية والعقارية، السّابقة أو المشرّعة حديثاَ، حقّ الملكية المصان دستورياً؟.

-ما هي المعايير والشّروط المكانية التي يجب قراءتها ومراعاتها لإعمار أو ترميم المدن بشكل يحفظ لكلّ مواطن حقّه المكاني العادل ويضمن له مساواة مكانية؟.

-كيف يمكن بناء أمكنة تقلّل قدر الإمكان من الأذى و التّشوه البصري والسّمعي والنّفسي الذي لحق بالإنسان السّوري، مع مراعاة الأثار التي سيخلِّفها شكل المكان الحالي والمستقبلي على سكّانه، وخاصّة النّساء منهم؟.

-هل ستراعي الأطراف، التي ستتولى إعادة الإعمار، معاييراً بنائية تحترم حقوق وسلامة الإنسان فيها، أم ستفتح أبواباً لصفقات تجارية استثمارية هدفها الرّبح والنّفوذ فقط؟.

..الكثير والكثير من الأسئلة التي تُلقي بنا في مستنقع الانتظار واليأس، فما أن تحاول فتح عينيك لترى حتّى تفتح أبواباً على الجحيم السّوري، ليبقى الأمل هو عزائنا الوحيد، فهل سيأتي يوم نبني فيه مدناً تحترم حياتنا وحقوقنا كبشر، مدنٌ نحبها ونشعر نحوها بالانتماء؟.