المدينة وإنتاج اللامساواة

المدينة وإنتاج اللامساواة

يارا الحسواني- مهندسة معمارية-دمشق
 

إنّ المقاربة بين القانون والبيئة العمرانية أو الطبيعية قادرة على أن تغيّر فهمنا لكلّ منهما، وقد تضع أمامنا أسئلة جديدة حول كيفية إنتاج المدن، واستدامتها، أو تحويل مسارها. يعيش اليوم أكثر من نصف سكان العالم في المدن، لكن هل مدننا المعاصرة هي الشكل الأمثل للحياة الحضرية؟. ما يُسمّى المنعطف المكاني هو السبب الرئيسيّ للاهتمام الذي يتمّ منحه الآن لمفهوم «العدالةالمكانية»، ولتوسيع نطاق أفكارنا الأساسية حول الدّيمقراطية وحقوق الإنسان، كما هو الحال في إحياء مفهوم هنري لوفيفر، عالم الاجتماع والمخطط الحضري، «الحقّ في المدينة».

«العدالة المكانية» مفهوم يلفت اليوم انتباه جمهورٍ أوسع بكثير من التخصصات المكانية التقليدية، من الجغرافيا، والعمارة، والتّخطيط الحضري والإقليمي. فهل ظهور هذا المصطلح يعني أنّ مدن اليوم تساهم في إنتاج أشكالٍ من الظّلم المكاني؟. وهل مرحلة إعادة الإعمار تتيح الفرصة للمخططين المدينيين في سورية لكي يجعلوا التّشكيلات الحضرية للمدن السّورية أكثر تحقيقاً للعدالة؟.

ظهور المصطلح

إنّ نظرةً جغرافيةً وتاريخيةً لمفهوم العدالة المكانية سوف تأخذنا إلى المدينة اليونانية القديمة،وفكرة أرسطو بأنّ التحضّر هو جوهر السّياسة. ستأخذنا عبر صعود الديمقراطية الليبرالية وعصر الثورة، ثمّ ستركّز الاهتمام في الستينيّات على الحضور المشترك بين هنري لوفيفر وميشيل فوكو، حيث تموضع تصوّر جديد للفضاء والمكان، وللمفهوم الحضري والمكاني للعدالة بشكلٍ خاصّ، مغلفة بدعوة لوفيفر لاستعادة السّيطرة على الحقّ في المدينة، والحقّ في الاختلاف.

مسار هذه التطوّرات للمنظور المكاني توسّع وتنوّع في كتاب دافيد هارفي «العدالة الاجتماعية والمدينة» المنشور عام 1973. لم يُستخدم مصطلح العدالة المكانية أبداً في هذا الكتاب، وكذلك في أي من كتاباته الأخرى في ذلك الحين.

المكان العادل

تقوم «المدن التي نحتاجها» على التوصيات التي خلُص إليها 26 مجمعاً للمفكرين الحضريين، وإذْ ينبغي على المدينة التي نحتاجها أن تعترف بالسياقات والثقافات والعادات المحلية، فإنّها تقوم على شرطين رئيسين ألا وهما احترام الاستخدامات العامّة والخاصّة للأراضي، ووجود منظومة جيدة التّنسيق من أجل الأنظمة المختلفة. فإذا ما أرادت المدينة أن تعمل على النحو الملائم فعليها القيام بتنسيق جداول أعمال جدّ متنوعة تتناول قضايا استخدام الأراضي، والإسكان، والطاقة، والمياه، والنّفايات، والتنقّل، والصّحة، والتّعليم، والتّنمية الاقتصادية، والتّعزيز من المساواة ما بين الجنسين، والحراك الثّقافي، والإدماج الاجتماعي.

لبناء «المدينة التي نحتاجها» في القرن الواحد والعشرين صدر بيانٌ عامّ تمّ إعداده من خلال مساهمات ما يزيد عن 7847 رجلاً وامرأة من 124 بلداً و 2137 منظمة، حدّدوا ضمنه النّموذج الحضري الجديد من خلال مجموعة من المبادئ ذات الصّلة. تتضح هذه المبادئ فيما يلي:

1- المدينة التي نحتاجها تتصف بالإدماج الاجتماعي والمشاركة.

2- المدينة التي نحتاجها تتسم بالتّكلفة الميسورة وسهولة الوصول إليها ومراعاة الإنصاف.

3- المدينة التي نحتاجها تتصف بالفاعلية الاقتصادية والشمولية.

4- المدينة التي نحتاجها تتميز بالإدارة الجماعية والحكم الدّيمقراطي.

5- المدينة التي نحتاجها تعزّز من التنمية الإقليمية المترابطة.

6- المدينة التي نحتاجها تكون متجدّدة وقادرة على الصمود.

7- المدينة التي نحتاجها تتمتع بهُويّات مشتركة، والإحساس بالمكان.

8- المدينة التي نحتاجها جيدة التّخطيط، ومن الممكن السّير فيها ومراعية لوسائل الإنتقال.

9- المدينة التي نحتاجها تتسم بالأمان والصحة وتعزّز الرّفاه.

10- المدينة التي نحتاجها تحتضن التعلّم والابتكار.

نلاحظ من خلال تلك المبادئ أنّ الشّكل الحضري الجديد للمدن يضمن إنتاج أماكن عادلة لجميع سكّانه، لكن كيف يكون المكان غيرَ عادل؟.

عن المساواة، وعدم المساواة المكانية

العدالة المكانية ليست بالضرورة تحقيقاً للمساواة المكانية، يمكن تعريف عدم المساواة على أنّه الاختلاف المرتبط بالعدالة الاجتماعية، وذلك وفقاً لما يقوله الجغرافي ديفيد سميث. فالمجتمعات التي تهتم بالعدالة الاجتماعية تدرك هذه الاختلافات ويمكنها توثيق عدم المساواة المكانية من خلال تمثيل تلك الاختلافات في إطارٍ مكاني. وتتجلّى عدم المساواة المكانية عندما يتركّز الفقر وتتدنّى الخدمات والبنية الأساسية في مناطق جغرافية بعينها على نحوٍ يحدّ من قدرة السكّان على تغيير أوضاعهم اقتصادياً واجتماعياً. واللاعدالة المكانية تؤكّد على المنطلقات الهيكلية- المكانية للامساواة بشكلٍ يزيد من الفصل الطبقي- المكاني لحدود الفراغ الجغرافي.

وهناك ترابطٌ بنيوي بين مفاهيم كلّ من الفقر والمساواة والعدالة، والأبعاد المكانية لكلّ منهم، وعلينا أن نفهم الفروقات بين تلك المصطلحات، وأن نبحث عن الطريقة المثلى لإخضاعها للقياس.

فالفقر، هو عدد، أو نسبة، السكّان الذين يعيشون تحت مستوى دخلٍ معيّن يتمّ تحديده باحتساب تكلفة الاحتياجات الأساسية في مدينة،أو إقليم، أوبلد معيّن، وغالباً ما يُسمّى هذا المستوى بخطّ الفقر.

 لكنّ مفهوم المساواة يُشير إلى التوزيع المتماثل للدّخول والموارد لجميع الأفراد.

أمّا مفهوم العدالة فهو يركّز على التوزيع العادل للموارد آخذاً في الاعتبار الاحتياجات المكانية لكلّ مجموعة.

من ناحية أخرى، فإنّ العدالة المكانية في حدّ ذاتها ليست بديلاً عن العدالة الاجتماعية أو الاقتصادية أو غيرها من أشكال العدالة، وإنّما هي وسيلة للنّظر إلى العدالة من منظور مكاني حيوي. أي أنّ هناك دائماً بُعد مكاني ذو صلة بالعدالة. كما عرّفها المفكّر الحضري إدوارد سوجا، حيث تشير العدالة المكانية بالمعنى الأوسع إلى تركيز مقصود ومركّز على الجوانب المكانية أو الجغرافية للعدالة والظّلم.

كنقطة انطلاق، ينطوي ذلك على التوزيع العادل والمنصف في الفضاء للموارد ذات القيمة الاجتماعية وفرص استخدامها.

عن العدالة والظّلم المكاني

يمكن النّظر إلى العدالة المكانية على أنّها منتج وعملية على حدّ سواء، مثل الجغرافيا أو أنماط التّوزيع التي هي في حدّ ذاتها عادلة أو غيرعادلة كما العمليات التي أنتجتها. ومن السّهل نسبياً اكتشاف أمثلة عن الظّلم المكاني وصفياً، ولكن الأصعب هو تحديد وفهم العمليات الأساسية التي تنتج جغرافيات غير عادلة. أمّا عن إنتاج الظّلم المكاني، فقد وضع إدوارد سوجا النقاط التالية:

1- التمييز على أساس المواقع الناتج عن التحيّز المفروض على مجموعات سكانية معينة بسبب موقعها الجغرافي هو أمر أساسي في إنتاج الظّلم المكاني وإقامة تشكيلات مكانية تتمتع بامتيازات دائمة. والقوى الثّلاث الأكثر شهرة القائمة على التمييز حسب الموقع والمكان، هي الطبقة، والعرق، والجنس. وبالطبع، فإنّ آثار هذه القوى يتخطّى العزل المكاني.

2- التّنظيم السّياسي للفضاء هو بالتّحديد مصدر قوي للظّلم المكاني، مع أمثلة تتراوح من الغشّ في تقسيم الدوائر الانتخابية، وإعادة تحديد الاستثمارات الحضرية، وتأثيرات تقسيم المناطق الاستبعادية إلى الفصل العنصري في الأراضي، وإنشاء هياكل مكانية أساسية أخرى تحمل الامتيازات من المستوى المحلي إلى النّطاق العالمي.

- النّشاط اليومي للأداء الحضري هو المصدر الأساسي لعدم المساواة والظّلم، حيث أنّ تراكم القرارات المحلية في الاقتصاد الرأسمالي يؤدّي إلى إعادة توزيع الدّخل الحقيقي لصالح الأغنياء على الفقراء. وتتفاقم إعادة التّوزيع غير العادلة بسبب العنصرية والتحيّز الجندري، والعديد من أشكال التّمييز المكاني والمواقعية. نلاحظ مرة أخرى أنّ هذه العمليات يمكن أن تعمل بدون أشكال جامدة من الفصل المكاني.

-إنّ التنمية والتخلف المتفاوتين جغرافياً يوفّران إطاراً آخر لتفسير العمليات التي تُنتج الظّلم.

فلا يمكن أبداً تحقيق التّنمية المتوازنة بشكل متقن، ولا المساواة الاجتماعية المكانية الكاملة، ولا عدالة التّوزيع النقية، فضلاً عن حقوق الإنسان العالمية. فكلّ الجغرافيا التي نعيش فيها تتضمّن درجة من الظّلم، ممّا يجعل اختيار مواقع التدخل قراراً حسّاساً.

لم التّفكير بالعدالة المكانية في سورية؟

تعدّ الدراسات التي تتناول الأوجه والنتائج المختلفة للامساواة والفروقات الاجتماعية في المنطقة العربية محدودة مقارنةً بحجم هذه الدّراسات في مناطق أخرى. ففي الواقع، إنّ الجهود قليلة أو غائبة تماماً حتّى الآن لطرح منظورٍ مقارنٍ يهدف إلى توثيق نشأة اللامساواة وتفاقمها، وفهم مساراتها وتفسيرها. حتّى من المنظور التّاريخي. والمحاولات ضعيفة لوضع المنطقة العربية في سياقٍ عالمي عند مناقشة تلك الظّواهر والاتجاهات العالمية. أمّا موضوع «العدالة المكانية» تحديداً فهو يلقى الاهتمام بشكل متزايد حيث يتمّ إعداد دراسات عمرانية في مصر ولبنان وتونس، على سبيل المثال لا الحصر، لكنّ مجالات طرح هذا المصطلح مازالت محدودة في سورية.

إلاّ أن وضع المدن السورية اليوم وأشكال الهجرات الداخلية والخارجية التي تعرّض لها سكّان المدن، والوضع العمراني المتدهور يزيد من أهمية التطرق لهذا الموضوع من خلال إعداد دراسات حول مستقبل العمران السّوري. والتوزع الديمغرافي العادل، والبيئة العمرانية الآمنة، والشّروط الصّحية الشّاملة، والسّكن الملائم للجميع، والتّوزيع المنصف للموارد، وشبكات الطرق الملائمة، هذ هي الخطوط العريضة لدراسات يمكن أن تضمن حياة عمرانية مناسبة لجميع سكّان المدن السّورية.

لكنّ المفارقة تكمن في الإسراع بإنشاء مدن استثمارية، مثل ماروتا سيتي في إحدى ضواحي دمشق، بينما تجري ورشات عمل تشاركية لوضع خطة تنموية لمدينة حلب. وفي الوقت نفسه يتمّ استحداث قوانين عمرانية تحمل قدراً لا بأس به من الظّلم المكاني.

فهل ستتوفر مساحات لدراسات وأبحاث مكانية ذات صلة قبل البدء بإعمار المدن المتضرّرة؟ وهل ستكون نتائجها مسموعة ومؤثّرة؟.

مصادر المقال

1- لوباو وساينز(2002)
Lobao, L., and Saenz, R. (2002). Spatial Inequality and Diversity as an Emerging Research Area. Rural Sociology 67(4), 

2- ما هو مفهوم العدالة المكانية؟ تحقيق حول اللامساواة المكانية في القاهرة، منشور في 31 آذار 2016

3- إدوارد سوجا (2009)
The city and spatial justice” [« La ville et la justice spatiale », traductionSophie Didier, FrédéricDufaux], justice spatiale | spatial justice | n° 01 septembre | september 2009

4- المدن التي نحتاجها، نحو نموذج حضري جديد، 2016