تصنيف المهن جندرياً آخر أوهام الذكورة

 

المحامية شروق أبو زيدان

في أحد دروس التربية الدينية للصف الثالث الابتدائي شرحت المعلمة لطلابها الحديث النبوي: "جاء رجل إلى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك".

فما كان من ابنتي إلا أن استنكرت الترتيب الذي جاء في الحديث، وقالت لمعلمتها أن ليس من فارق بين أمي وأبي، فكلاهما يعمل في البيت وخارجه. وكلاهما يعاملانها باللطف والاهتمام ذاته، ولم تتمكن المعلمة من الرد عليها إلا بأن الله خص الأم بهذا لأنها تملك الوظيفة الإنجابية دون الرجل، ولكن كفتاة في الثامنة لم تقنعها هذه الإجابة وعادت إلى المنزل تحمل التساؤل والاستنكار نفسه. ذلك أنها لم تجد مبرّراً لهذا التفضيل في حين ترى كلا والديها يخرجان يومياً إلى العمل ويتشاركان الأعمال المنزلية الأخرى. وهي الأخرى تشارك أخاها كل الألعاب والنشاطات الرياضية منها والترفيهية.

مما لا شك فيه أن المجتمعات الأفقر تكون أكثر عجزاً عن التفكير بالانفتاح وتقبّل أفكار جديدة أو صيغ اجتماعية أكثر تساهلاً مع الجنسين، وتحديداً مع المرأة، وهو ما يجعلنا نستهجن رؤية امرأة تقود حافلة نقل عام أو سيارة أجرة، أو نتفاجأ عند سماع أن هناك مغسل سيارات افتتحته مجموعة نسوة للعمل وكسب رزقهن، تلك المفاجأة التي يصفق لها البعض ويستنكرها البعض الآخر، ولنكن منصفين هنا فكلا الحالتين تصفيقاً كانت أم استنكاراً لا تنم عن حالة مجتمعية صحية، فهما إذا دلتا على شيء فهو أن بعض المهن راسخة في عقولنا على أنها حكر على الرجال فقط ولا يمكن للنساء ممارستها.

فنحن لا تزال نظرتنا للأعمال كما نظرتنا لأي أمر آخر في مجتمعنا ـ نظرة نمطية ذات أحكام مسبقة، ولدتها العادات والتقاليد والأعراف في المجتمع.

وقد اضطهد مجتمعنا المرأة والرجل على السواء، عندما ساد فيه عرف أن الرجل هو من يجب أن يعمل خارج المنزل، وتنحصر مهام المرأة في المنزل وتربية الأطفال، فصار هو الحامي وهي من تحتاج الحماية، مما جعل كلا الطرفين يستعبدان بعضهما بشكل أو بآخر، فالتزمت النساء منازلهن تحت رعاية الرجال، وخرج الرجال للعمل بكل أنواعه، شريطة أن يؤمّنوا لنسائهم كل ما يردن ويطلبن. مما حدا بالرجال لأن ينظروا للنساء على أنهن ملك لهم ولا حق لهن بشيء، وما من عمل يمكنهن تأديته كما يفعلون هم.

كان هذا الامتياز الذي حصل عليه الرجال مستنداً ومستمدّاً من قوتهم العضلية التي كانوا يتباهون ويتفاخرون بها، وهي بالطبع أكبر من تلك التي تملكها المرأة نتيجة التكوين البيولوجي للجسم. فاستغل الرجل هذه القوة على الصعيد البدني وصارت تفوّفاً ليس فقط على هذا الصعيد، بل تعدّاه لأن يصبح تفوقاً اجتماعياً بنى اللبنة الأولى لفكرة عدم التكافؤ. فبدأ الرجل منذ أيام الإنسان الأولى باستخدام هذه القوة واستغلالها للصيد وتأمين الغذاء مقابل أن تمنحه المرأة الأطفال لاستمرار الحياة، وتصنع الطعام له ولأولاده، فانحصر دورها دون أن تشعر بالوظيفة الإنجابية والاهتمام بالأطفال والعمل المنزلي.

ثم جاء الإسلام الذي حمّله الكثيرون سبب منع المرأة من مزاولة الأعمال، وخاصة تلك التي لا يبرع فيها إلا الرجال -حسب رأيهم – علما" أن أسماء بنت هاشم خصص لها الرسول خيمة لتداوي فيها المرضى والجرحى، وكثيرات غيرها كنّ يخرجن مع الرجال للجهاد سواء ليجهزن لهم الطعام أو للتمريض أو غير ذلك. وخديجة كانت تعمل بالتجارة فتتعامل مع الرجال، وتسلّمهم وتستلم منهم بدورها البضاعة والأموال، وفي ميدان الدعوة للدين الإسلامي وأصول الفقه وتعاليم الدين، فقد كانت عائشة أبرز وأهم من عمل في هذا المجال، حتى أنها كانت تصحح للصحابة ما يخطئونه في أقوال الرسول، فقال أحدهم عنها: "ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة". وقال آخر: "ما أشكل علينا أصحاب رسول الله (ص) حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً". وهذا يدل على أن الإسلام لم يمنع المرأة من العمل في ميادين كانت مخصصة للرجال حسب السائد، وإنما كان يثني على من يقمن بهذه الأعمال، ويعتز بهن مع وضع ضوابط وحدود لهذه الأعمال سواء من حيث الاختلاط بالرجال أو ارتداء الثياب المناسبة.

التي تقود الحافلات والدول يمكن لها إصلاح غسالة

اليوم وبعد قفزات التطور التي نشهدها بشكل شبه يوميّ، وبعد أن شهدنا كيف أنّ الطالبة كيتي بومان وضعت الخوارزمية اللازمة للمساعدة في التقاط صورة للثقب الأسود، مازلنا نقولب الأعمال ونجندرها، فنخضع الجنسين لنفس درجة الظلم من قبل الجنس الآخر. ولحسن الحظ فإن كثيرات خرجن من قوقعة التقاليد والأعراف والصور مسبقة الصنع، وتحدين العالم ليثبتن أنّ البيولوجيا لا يمكن أن تتحكم في مصائرهن ومصائر من حولهن. فاختارت فالنتينا تريشكوفا دخول التاريخ من الفضاء عندما سافرت إليه وقادت السفينة الفضائية دون طاقم، وهي المرة الأولى التي تفعل امرأة ذلك، مشجعة كل الأحلام والطموحات لدى الكثيرات، ليلجن الفضاء ويكتشفن أسراره لتطول القائمة بأسمائهن.

ولأن السماء تحتضن كل طيورها بنفس الحب، فإن أخريات قررن اللجوء لهذا الحضن العادل، ففردن الأجنحة وحلّقن ليكون لهن من التاريخ حصة، وتحفر أسماؤهن عميقاً مع كل هدير محرك طائرة، فما من دراسات تثبت أن المرأة ليست أهلاً لقيادة الطائرة، وما من معايير تقنية تستثنيها من ذلك العمل. وقد أثبتت ذلك كل السيدات في مجال قيادة الطائرات ككابتن طائرة وليس كمساعد طيار فقط، وبدون شك فقد كان للسوريات نصيب من هذا الفخر المنتَزع بفضل الكابتن وداد شجاع وغيرها.

هؤلاء النسوة قادهن إصرارهن وعزيمتهن وحلمهن للقيام بذلك، ولكن أخريات أجبرتهن الحاجة والوضع العام على سلوك طريق في العمل ربما لم يكن في أذهانهن سابقاً، ولكن على الرغم من ذلك فقد أثبتن أنهن أهل لأي عمل يمكن أن يقمن به. فصار من الطبيعي أن نرى سائقة سيارة أجرة أو سائقة حافلة نقل عام، على الرغم من التهليل لهذا المشهد وجعله مادة دسمة للتنمر والأقاويل بين الناس، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي اجتاحت حياتنا. وفي مكان آخر قد نشاهد مجموعة نسوة افتتحن مغسلاً للسيارات، وهذا من أكثر الأعمال التي كانت مرتبطة فقط بالرجل بشكل أو بآخر، ولكن مع وجود الكثير من الآلات والمعدات يمكن تجاوز مسألة فارق القوة العضلية المهيمنة، وإنجاز العمل بكل إتقان. فلماذا لا تكون هذه الأعمال مشتركة بين الجنسين، ويتعاونان لإنجازها بوقت أسرع ومجهود أقل؟! فنتجاوز ذلك المفهوم التنافسي بين المرأة والرجل والذي يسيطر على كليهما، فالغاية من عمل النساء في المجالات التي كانت محتكرة للرجل، بشكل أو بآخر، هي إثبات أنها قادرة على ذلك وأنها يمكن أن تكون خارج الصندوق المجتمعي المغلق، ولم تكن تلك الغاية يوماً هي سيطرة المرأة أو زيادة سطوتها.

مجتمعنا يعيش ازدواجية حقيقية دون أن يدرك ذلك، ففي الوقت الذي لا يوافق فيه على وجود المرأة في كل ميادين العمل، يسلمها المهمة الأصعب والأهم على الإطلاق وهي تربية الأطفال وتعليمهم، إضافة إلى أن معظم المراحل التعليمية حتى الثانوية تتولاها النساء ـ وهي إطار آخر من أطر المجتمع الخاصة بالمرأة ـ فكيف يأتمنها على أفكار الجيل الذي يجب أن يرث ويتعلم عاداته وتقاليده ومفاهيمه، ولا يثق بها في نفس الوقت لإصلاح سيارة معطلة مثلاً؟!

يبدو أن هذا الجدل قد لا يجد له حلاً سوى باتباع أساليب تربية مختلفة للجميع تعيد تأهيلهم نفسياً واجتماعياً وثقافياً. وحتى المفاهيم المجتمعية السائدة يجب إعادة تربيتها بإخراجها من قوالبها الصدئة وتنظيفها بالفكر الصحيح والتجارب الحقيقية البناءة. ولذلك يترتّب علينا جميعاً مراقبة سلوكنا وأفعالنا وألفاظنا، فربما تنجو الأجيال اللاحقة من خلال مراقبة كم تبدو الأعمال طبيعية وعفوية ومنطقية عندما يمارسها الرجال والنساء معاً.