تعب القلوب..
تعب القلوب (عن المجتمع المدنيّ السّوري)
محمد حلاّق الجرف-مركز المواطنة المتساوية
نتذكّر جميعاً، ومع التّغييرات السّياسية المحدودة، ولكن المُبشّرة حقاً، التي طرأت على سورية في بدايات القرن، كيف انتشرت منتديات وصالونات سياسية ناقشت هموم ومستقبل البلاد والعباد بعيداً عن الرؤى والسّياسات الرّسمية. هذه المنتديات اعتبرت-وفي محاكاة لربيع الثّمانينات في شرق أوروبا، خصوصاً ألمانيا الشرقية- جزءاً من المجتمع المدنيّ العتيد، وهو ما عُرف في الأدبيات السّياسية السّورية بـ "ربيع دمشق".
كان "ربيع دمشق" يسير بخطىً ثابتة باتجاه خلق حيّز عامّ مدينيّ، لا تتحكّم به السّلطة، ويسعى للانخراط في العملية السّياسية عن طريق خلق علاقة نديّة، متميّزة، عن الدّولة والسّوق. هذا الرّبيع تمّ وأده لأنه اعتبر في وقته خطراً كبيراً على السّلطة التي كانت قد استولت، ومنذ عقود، على الحيّز العام وحولته إلى حيّز خاص يعتمد على الزبائنية، والولاء، والذي تُوّج أخيراً بما بات يُعرف بـ "رأسمالية المحاسيب".
تطرقنا بهذه العُجالة إلى تلك الفترة لنبيّن الفرق بين تعريف المجتمع المدنيّ الحقّ (والذي هو الحيّز العام الذي لا تتحكم فيه السّلطة، والقائم على علاقة جدلية ونقدية مع الدّولة والسّوق، وبمعنى أخر مشتبك مع العملية السّياسية. هذا الحيّز يضمّ فيما يضمّ النقابات، ومنظّمات المجتمع المدني، والأحزاب، وكل أشكال الاتحادات الطوعية). وبين التعريف الدّارج حالياً، بعد خمسة عشر عاماً على نهاية ربيع دمشق. فالتعريف الحالي يختزل المجتمع المدنيّ إلى مجرّد منظمات غير حكومية NGOs. والأخطر من وجهة نظرنا، هو ما أضافته الجهات الغربية المموّلة إلى خصائص المجتمع المدنيّ أي "الحياد السّياسيّ". فبات المثقفون، والنّاشطون، والسّياسيون السّوريون بابتعادهم عن السّياسة وحيادهم عنها، يعملون ضمن مكنة إعلامية وإيديولوجية تصبّ في النهاية في خدمة السّلطة، وخصومها الجهاديين، وفي خدمة الحكومات الغربية كذلك. أي بات المجتمع المدنيّ السّوري يعمل لصالح الجميع ما عدا من هم بحاجةٍ إليه: المدنيون السّوريون!.
النقطة التي حسمت الفرق هي هنا، نحن تلقّفنا تعريف "المجتمع المدنيّ" من الغرب بعد حوالي ثلاثة قرون من تطوّر المفهوم هناك (أي بعد أن أنجز المفهوم تعريفه التّاريخي من خلال تطوّر الفكر السّياسي نفسه)، دون النّظر إلى حاجات مجتمعنا الحقيقية. ففي الغرب، لم يتخارج المجتمع المدنيّ عن السّياسة إلاّ بعد أنْ تمّت عملية دمقرطة ولبْرلة الدّولة. هذا الكلام لا يعني أنّنا ننظر إلى المفهوم بوصفه ترفاً، على العكس، نحن نقول بضرورته، وبضرورة تسخيره لما يخدم معركتنا الحقيقية: معركة المواطنة، والدّيمقراطية، وشكل الدّولة، ومسألة نظام الحكم، وقانون الانتخاب، والدّستور، والجندر..والأهم العمل على وقف الحرب. وكلّها معارك سياسية بامتياز، لأنها معارك باتجاه نيل حقوقٍ سياسية ومدنية. وتالياً، لا يمكن للمجتمع المدنيّ ومنظماته أن تبقى بعيدة عن السّياسة، ولا أن تكون محايدة في معركة سياسية.
هذه المعارك لا يمكن تأجيلها لما بعد، لحين تحقيق "عتبة" الاستقرار السّياسي، فنحن في سورية لا نملك ترف انتظار الوقت الذي يعتقده غيرنا مناسباً، يجب علينا نحن أن نُحدّد الأوقات، والقضايا، والمفاهيم المناسبة لخوض معاركنا.
***
في سورية، يعتقد نشطاء المجتمع المدنيّ أنّهم حققوا للسّوريين ما يتمناه أي شعب يعاني من ويلات الحروب: أن يتواجد المجتمع المدنيّ على طاولة المفاوضات التي سترسم مستقبل بلادهم لعقود قادمة.
وبالفعل، فقد قام مكتب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية "ستيفان دي ميستورا" بدعوة عدد من ممثّلي المنظمات لحضور "جنيف" ولكن ليس كمفاوضين أو كطرف ثالث، بل كشهود!.
تُوّجت جهود ديمستورا المدنية في آذار/مارس 2016 عندما قام بدعوة 12 سيدة سورية لتشكيل "المجلس الاستشاري النسائيّ" ورغم أنّ المجلس "ليس طرفاً تمثيلياً ولا يحمل صفة تفاوضية" كما صرّحت إحدى عضواته، إلاّ أنّ عضوات المجلس اعتبرن في مؤتمر صحفي أنّ المجلس يضم كلّ شرائح المرأة السّورية (أيْ أنه ممثّل للمرأة السورية!) دون أنْ يُعرن أدنى اهتمام لتغيير صفة المجلس من نسائيّ إلى نسويّ كما يُفترض من ناشطات نسويات أفنيْن عمرهن في النّضال النسوي.
المراد قوله من الأسطر السابقة أنّه يحب أن يكون هناك، بالنسبة للسوريين، فروقٌ بين السّياسة والأحزاب السّياسية، بين حرب التحرير الشعبية والفصائل العسكرية الجهادية (بما فيها الفصائل المنضوية تحت الجيش الحرّ)، بين المجتمع المدنيّ –وهو ما يعنينا هنا- وبين منظمات المجتمع المدنيّ.
هناك حقيقة يتوجب الإقرار بها، وهي أنّ الشعب السوري أعان نفسه بنفسه إبّان موجات النزوح الكبرى الأولى، وهذا الأمر كان بمثابة المعجزة على حدّ تعبير السّيدة نافي بيلاي مفوضة الأمم المتحدة العليا لحقوق الإنسان، المستقيلة حالياً. ومن انغمس في ذلك العمل وقتها يعلم أنّه لولا النّشطاء المدنيين ما كان لتلك المعجزة أن تتم.
ما الذي حدث إذاً؟
في حين يعاني المدنيون السّوريون من أهوال الحرب المأساوية (التقديرات تشير إلى أكثر من مليون قتيل، وأكثر من عشرة ملايين نازح ومهجر، وخروج معظم القطاع التّعليميّ والصّحي عن الخدمة)، تتلقّى منظمات المجتمع المدنيّ –بعد مأسستها وتمكينها- دعماً هائلاً من منظمات وحكومات وهيئات دولية لتنفصل عن ناسها!، ويبدو أنّ الداعمين قد نجحوا..
تغيب القيم حالياً عن أغلب هذه المنظمات، وتنحرف نشاطاتها بحسب رغبة الممولين، فتارةً ترى إقبالاً كبيراً على التوثيق، يتبعه موجة من الإعلام البديل، أو ورشات السلم الأهلي والعدالة الانتقالية، أو الجندر والنسوية. إحدى الدراسات أشارت أنه في حتى العام 2014 تمّ تدريب حوالي 250000 ناشطٍ مدنيّ سوريّ (طبعاً، الكثير منهم مرّ بذات الدّورة التدريبية مرّات عديدة!)من قبل منظمات غربية، أي حوالي 10% من السّكان. أنا شخصياً أعتقد لو أنّ هذا الرقم لو بُعث في أمّة ميتة لأحياها، هذا فيما لو كان هناك جدوى من هكذا ورشات طبعاً.
يُصرّ السّوريون على الفشل، يصرّون على خداع أنفسهم. لذلك تجد ناشطهم مقتنع أنّه يمثل المجتمع المدنيّ حقاً في غرف خبراء المجتمع المدنيّ رغم أنّ الأهم هو وضع ديمستورا والآخرين أمام مسؤولياتهم بشأن الانتهاكات الكبيرة التي يرتكبها الجميع: المجتمع الدوليّ، والنظام، والمعارضة.
تعتقد النّاشطة النّسوية السورية أنّها تمثل مختلف شرائح المرأة السورية برغم أنّ ما من أحد انتخبها، وبأنّها لا تحمل أي صفة تمثيلية.
يتوهم الإعلاميّ السّوري أنه مهمّ لأنّه نال جائزة ما، يعلم هو قبل غيره أنّ معيار الحقيقة والنزاهة والالتزام بحقوق الإنسان هو المعيار الأبعد عند تقييم عمله.
يريدون منّا أن نشرعن غير المشرعن، أن نصدّق أنّ هكذا طاولة لهكذا مفاوضات هي من يرسم مستقبل سورية، وإذا رسمته فإنّه المستقبل الأفضل الذي يناسبنا، والذي راح في سبيله أعزّ ما لدينا.
بابتعاد النّشطاء المدنيين السّوريين عن السّياسة بحجة عملهم المدنيّ، يكونون قد تخلّوا عن الحيّز العام لصالح ألدّ أعداء المدنية (بمعنى المواطنة). يكونون قد تركوا ما يسعون لأجله في يد السّلطة، والتّيارات الجهادية، والسّياسات الغربية.
لا يؤمن السّوريون بقضيتهم كفاية، لا نُؤمن كفاية بأنفسنا.