حلبة الموت الوثنية وثقافة المعيار
حلبة الموت الوثنية، ثقافة المعيار
المحامي نورمان الماغوط- مركز المواطنة المتساوية
في كتابِه «من زاويةٍ فلسفية»، يروي زكي نجيب محمود قصةَ طفلٍ اصطحبَهُ أبوهُ في روما أيَّام المسيحيَّةِ الأولى، حين كان الشهداءُ الأوائلُ من روّادِ الدينِ الجديد يُلقى بهم في حلبة السِباعِ على مشهدٍ من الجموع الوثنية، إذ رأى الطفلُ في الحلبةِ سباعاً وجَدَ كلٌّ منها مسيحيَّاً ينهشَهُ ليأكُلَ، إلا سَبْعاً واحداً لبثَ جائعاً بغيرِ فريسةٍ، فقال الطفلُ لأبيه: مسكينٌ هذا السبعُ ليس لديهِ مسيحيّاً يأكُلُهُ كبقيةِ السِباع!.
عبر هذه القصَّةِ «الطريفةِ» يحيلنا فيلسوفُ الوضعيَّةِ المنطقيَّةِ إلى ما يمكن تسميَتَهُ بـــ «ثقافة المعيار» حيث يلحظ صاحبُ «خرافة الميتافيزيقا» أنّ الطفلَ لم يكن على ضلالٍ في عطفه على السَّبْعِ المسكينِ «ما دامت نظرتُهُ محصورةً في نطاقِ الحلَبَةِ التي أمامه، فها هي ذي مجموعةٌ من آحادِ الحيوانِ اجتمعت على غرضٍ مشترك، والإدراكُ الفطريُّ السليمُ يقضي أن يسودَ بينها قسْطاس!».
يتابع زكي محمود قائلاً: لايتجلَّى موضعُ الخطأ إلاّ إذا وسَّعنا الدائرةَ إلى حلبةٍ داخل نطاقٍ أوسع، فعندئذٍ نرى أن ما قد عدَدْناهُ عدْلاً داخل الحلَبَةِ، هو ظلمٌ بالقياسِ إلى ما هو خارجها .. هو ظلمٌ بالنسبةِ إلى جماعةِ الشهداءِ من أبناءِ الديانةِ الجديدة (صفحة 124-125).
إنَّ اختلافَ النَّظَرِ ليس قائماً على قيمةِ العدلِ في ذاتها إذاً، بل على اتساعِ دائرةِ التطبيقِ أو ضيقِها. فالمعيارُ يختلفُ كلَّما اتسعت الدائرةُ وتساوقَت هذه القيمةُ مع قيَمٍ أخرى كالحريّةِ والسلامِ والأمنِ وطمأنينةِ النفس .
ومن نافلِ القول : إن الكثيرَ من المعاييرِ التي تحكُمُ النَّظْرَةَ إلى عديدِ القضايا التي تشغل عالَمَنا المعاصرِ، داخلاً أو خارجاً، تقترب كثيراً من منطقِ الطفلِ داخلِ الحلبةِ الوثنيَّةِ، حيث تسود قيمةٌ معياريةٌ واحدة تنزع عن الآخرِ بجدَتَه وماهيَتَه بمنطقِ العداءِ والخصومة، وما تُضمِرهُ من مصالح وغرائز. ولا غرابةَ أن يحكمَ هذه المعاييرَ التهاتر والتناقضُ، و«فصامٌ نَكِدٌ» ما بين الأسبابِ والنتيجة. بل كثيراً ما جاءت على صورةٍ هزلية: ما تبَرِّرهُ في حقلٍ تدينه في آخر!، «ترى القشَّةَ في عينِ أخيها، ولا ترى الخشبةَ في عينها»، تقطع يدَ سارقٍ وتقبّل يدَ سارقٍ، ترجم زانياً وتنحني لزانٍ، تعيشُ التصدّعَ ويصدُمُها الانهيار، وهذا ما حطُّ من أخلاقيَّتِها ورصانَتِها، وأعدمها كلَّ ثقة .
إن إدانةَ حلباتِ الموت في مكانٍ وتبجيلها في آخر مزحةٌ سمجةٌ مع الحياةِ، وتكريسٌ لثقافةِ الموتِ التي - كاللعبِ بالنار- لا تدَّخر أحداً. إنها بمُكْرِها ِوخُبثِها تلتقط ثوبَ مُشْعِلها، وتنتقل به من شاهدٍ إلى شهيد! فمن عاش بالسيفِ مات به، ومن شمتَ بعذاباتِ الآخر ذاق شماتةَ الآخرِين بعذاباته.
من نافلِ القولِ أيضاً: إنَّ ثقافةَ المعيارِ عبر توسيعِ دائرتِه تملي انقلاباً في منطقِ «الغاية تبرّرُ الوسيلةَ» إلى ثقافةٍ تجعل «حكمَ الغايةِ من حكمِ الوسيلةِ»، فالغايةُ هي الطريق، وفي الطريقِ إلى مملكةِ الحلمِ يكون الطريقُ هو المملكة!.
إنَّ المعيارَ الذي يضعنا خارج حلباتِ الموت، هو ذاك الذي ينبثق من ثقافةِ الحياة وكرامةِ الحياة. هو وحدهُ ما ينتجُ فاعليةَ التطهير، ويفتحُ الطريقَ واسعاً إلى الحرية حتى ولو حصد في لحظاتِ رهانِهِ الكبرى جراحَ الألمِ والغربة، لكنه في سيرورةِ «القيِّمِ تاريخياً» يصيرُ جزءاً من نهرِ الحياة، ولحظةً ثمينةً من ذاكرةِ الحرية .
وما من شك أنَّ الازدواجيةَ التي تزدري قاتلاً صغيراً لمصلحةِ قاتلٍ كبير، وتقترحُ موتاً كثيراً بأهازيجِ موتٍ ضئيل، ستتكفَّلُ بها الحياة، تلك التي كالله .. تُمهِلُ ولا تُهمل .
هي دعوةٌ كي نعيدَ بناءَ معاييرِنا، تأسيساً وتأصيلاً، سنداً لثقافةِ الحياة بما هي حبٌّ وعدلٌ وحرية بعيداً عن كلِّ تهاترٍ وتهافتٍ يَعْدمان كلَّ ثقةٍ ومصداقية، وإلاّ لا غرابةَ إن قادت عبثيةُ الأقدارِ وسخريتُها أحداً، وعبر منطقِ العدالةِ ذاتها، للانتقالِ من مُصفِّقٍ على مدرَّجاتِ الفُرْجَةِ .. إلى ضحيةٍ داخلَ حلبةِ الموتِ الوثنية !.