حول الشّعبوية وعنْف اللّغة
حول الشّعبوية وعنْف اللّغة
محمّد حلاّق الجرف- مركز المواطنة المتساوية
لا يحتاج عنف اللّغة في خطاب السّوريين المنشغلين بالشّأن العام إلى البحث عن شواهد تؤكده، فوجوده طاغٍ على سواه. وخطورته تكمن هنا: في أنّ من يستخدم خطاب العنف هذا هم السّوريون المنغمسون في الشأن العام، روّاد وسائل التّواصل الاجتماعي، وكتبة المقالات والتحليلات السياسية والاجتماعية. وهم، وبتعبير آخر، "نخبة" السّوريين، أي الطبقة المتعلمة والمثقفة القادرة على لعب الدّور الرّئيس في التأثير والتوجيه وإعطاء الثّقافة شكلاً ما في المجتمع.
يقول جورج أورويل بأنّ وظيفة الخطابة والكتابة السياسيتين تتحدّد في الدّفاع عمّا لا يمكن الدّفاع عنه. فاللغة ليست مجرّد نظام معقّد من الرّموز والإشارات، ولا أداة لنقل المعلومات فحسب، بل هي أيضاً وسيلة تأثير تتوخّى سلطة قادرة على دفع المتلقّي إلى اتخاذ سلوك معيّن لإنتاج فعل تقتضيه مصلحة المحرّض وغايته. وهذا بحثٌ ألسنيّ شاق لا مجال هنا للخوض فيه. إلاّ أنّ خير مثال على أنّ عنف اللّغة هو وظيفة لها يُراد من خلالها تمكين أفرادٍ وجماعات ما من تبنّي أشكالاً سلوكية مُحدّدة هو ما عُرف بـ "غزوة البيض"، وذلك عندما قامت مجموعة من الشبّان السّوريين، ونتيجة لحملات تخوين وتحريض هائلة على وسائل التّواصل الاجتماعيّ، برشق وفد هيئة التّنسيق بالبيض والبندورة أمام مقرّ جامعة الدّول العربية في القاهرة، وبدلاً من التنديد بالحادث باعتباره إرهاصاً لما يُمكن أن تفعله الكلمات غير المسؤولة على شبكات التّواصل، كان فرصةً للتندّر والتهليل.
عموماً، يعرّف العنف على أنّه فعلٌ بدنيّ أو لفظيّ موجّه ضدّ شخصٍ ما، ويتسبّب عنه أذىً جسدّي أو نفسيّ. والعنف اللّفظي، مثل السبّ والشّتم، خصوصاً عند ذكر الأعضاء التّناسلية للنّساء من معرض التّحقير، هو "عملية تنفيس مؤقتة يتمكن بواسطتها الشّاتم من تمييز نفسه(بوصفه فاعلاً) بواسطة الشّتائم في مرتبة أعلى من المشتوم (المفعول به)، أي أنّه يزدري خصمه ساعياً إلى إقصائه، وتهميشه. والأهم، "تجميع لايكات" دون أدنى مراعاة لما ينتج عن ذلك من تشويه وإساءة للقضية الأساسيّة التي يدافع عنها صاحب الخطاب، والتي قد تكون قضية نبيلة تعثّرت بمنافحين غير ديمقراطيين عنها.
إذاً، العنف اللّغوي هو سابق على العنف المادّي، وهو الأساس الذي يمهد له بيئةً مناسبة ويجعله مقبولاً ومبرّراً لدى مؤيديه. وهو من يضع النّاس في درجات تمييزية، فتجد صاحب الخطاب مفترضاً نفسه ذو قدسية ما، والمصفقين له في مرتبة أعلى، وبالتالي فإنّ الآخر، ولكونه آخراً فقط، ينتمي للقاع الأخلاقيّ (كما يحدث عندما يخاطب أحد رجال الدّين طائفته بـ "أشرف النّاس" ممّا يشير مباشرةً إلى أنّ من لا ينتمي إلى هذه الطائفة هو أقلّ شرفاً، أو عندما يصف قائد سياسيّ خصومه السّياسيين بالـ "الجرذان"! مفترضاً أنّ الصفات الإنسانية لا تنطبق إلاّ على مؤيديه) .
بحجة الحرص على لغة قريبة من الشّارع انجرّ الخطاب السّياسيّ السّوري إلى الانفعال والشّحن، والتّركيز على العاطفة والغريزة، وتقديم رؤى تعميمية غير واضحة هدفها الأساسيّ هو معاداة السّياسة، فكان أنْ غابت السّياسة عن الخطاب السّياسيّ السّوري في أهمّ حدثٍ سياسيّ شهدته البلاد.
هذا الخطاب الشّعبويّ حمل في طياته التّحريض على الكراهية، وهو بسبب طبيعته العاطفية، لا يتطلب من المتلقّي أي محاكمة منطقية له، وهو في هذه النقطة بالذات يحتقر الشّعب بحجة التّقرب إليه لأنّه يفترض أنّ النّاس تعتمد على غريزتها فقط، فاقدةً لأي ثقافة، أو نباهةٍ، أو ذكاء. هكذا أصبحت الشّعبوية –لا السّياسة- هي مرجعية معظم الخطابات السّياسية اليومية في سورية، وبفعل التّحريض العبثيّ تدهور الخطاب السّياسيّ على وسائل التّواصل الاجتماعيّ إلى الفوضى و"العنف اللّفظيّ"، فاختفت لغة السّياسة، وتبعاً لذلك غاب السّلوك السّياسيّ بين الأطراف السّورية.
إنّ كل تمييز لغويّ، أو تحريض على الكراهية هو تحريضٌ على العنف. ويزداد الأمر سوءاً في أجواء الحرب، وتفتت المجتمع، وغياب القدرة على المحاسبة القانونية. لذلك فإنّنا لا نبالغ إذا قلنا بأنّ هذه اللّغة السّياسيّة البذيئة تبدو اليوم مسؤولة عن كثير من الويلات والهزائم السّياسية التي ما فتئنا نُمنى بها يمنةً ويساراً. ولغة السّب والشتم (الجنسيّ خاصّة) هل لغة فاقدة لأي أخلاق، وتالياً هي لغة لا يُعوّل عليها في بناء وطن.
حتّى الذين لم يُشاركوا بشكل مباشر في أعمال العنف، ولكنّهم اكتفوا بالتحريض على الكراهية، ساهموا في توليد هذا المناخ المُتقبّل للعنف، وعدم التسامح، والجرائم التي وصلت في بعض الأحيان لمستوى المجازر. وأصبح يُنظر لكلّ عنف على أنّه "دفاع عن النّفس" وفي أحسن الأحوال خطأٌ فرديّ لا يضرّ!
إنّ صراع قوى المواطنة مع أشكال الاستبداد المختلفة هو صراعٌ أخلاقيّ بالأساس. وعندما تخسر قوى الدّيمقراطية سلاحها الأخلاقيّ تخسر كلّ شيء.