دافع ذكوري أم دافع شريف
حسّان الشّحف – محامي، مركز المواطنة المتساوية
الشّرف، والعدالة، والأخلاق مفردات نستخدمها غالباً -كما الكثير من المفردات الأخرى- دون أن نفكّر في مدلولاتها، أوْ لنقل دون أنْ نجرؤ على التّدقيق فيما نعنيه بها، و(جريمة الشّرف) هي تسمية منسجمة مع هذه التناقضات التي نتخبّط بها، وإذا عُدنا إلى نفس البداهة التي نتعامل فيها مع المفردات. فالجريمة فعلٌ شائن مُسيء لا يمكن الدّفاع عن صوابيته، والشّرف قيمة سامية تتعالى عن الأنانية والدّناءة، وهذا المصطلح (جريمة الشّرف) يرتبط كلياً بفعل ذكوريّ ضحيته دائماً الأنثى، فلم تُسجّل جريمة واحدة ارتكبتها أنثى ضدّ ذكرٍ واستفادت من عذر مُحلّ، أو عذر مُخفّف نصّ عليه القانون.
هذا التّمييز -المستقر عرفاً- ضدّ المرأة، كرّسه المُشرّع السّوري في الكثير من نصوصه القانونية، ومنها نصّ المادة 548 من قانون العقوبات رقم 148 لعام 1949 قبل أنْ تُلغى مؤخراً، الذي كان يمنح عذراً مًحلّاً لمن «فاجأ زوجه، أو أحد أصوله أو فروعه، أو أخته في جرم الزّنا المشهود، أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر، فأقدم على قتلهما أو ايذائهما أو على قتل أو ايذاء أحدهما بغير عمد»، أمّا إذا فاجأهما بحالة مريبة فإنّه يستفيد من عذر مُخفّف. وبقي هذا النصّ سارياً ستّون عاماً قبل أن يطاله التّعديل الأوّل بموجب المرسوم التّشريعي رقم 37 لعام 2009 الذي نصّ على أنّ الفاعل يستفيد من عذرٍ مخفّف بدلاً من العذر المُحلّ على ألا تقلّ العقوبة في القتل عن الحبس سنتين، وحُذفت الفقرة الثانية التي كانت تمنح عذراً مخفّفاً لمن فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فرعه أو أخته في حالة مريبة. وفي 3/1/2011 صدر المرسوم التشريعي رقم / 1 / القاضي بتعديل بعض نُصوص قانون العقوبات ومنها المادّة 548 فأبقى على استفادة الفاعل من العذر المخفّف، على أن تكون العقوبة الحبس من خمس سنوات إلى سبع سنوات في القتل، بالإضافة إلى استبدال كلمة أخته الواردة في النصين السابقين (من فاجأ زوجه أو أحد أصول أو فروعه أو أخته) بكلمة (أخوته) بما يُفيد بأنّ النصّ ينطبق على الفاعل سواء كان ذكراً أو أنثى دون تمييز، أي يمكن ان تستفيد من هذا العذر المخفّف الأنثى التي تشاهد أخاها أو أباها في صلات جنسية فحشاء فتقدم على قتله!. هذا ما قصده المُشرّع في هذا التّعديل، ولكن هل نستطيع أنْ نتخيّل وقوع حادثة كهذه؟، أليس الشّرف قضية تعني الذّكور فقط؟، ألم يبقَ المُشرّع أكثر من نصف قرن قبل أنْ يلحظَ أنّ العذر المُحلّ أو المُخفّف الوارد في نصّ المادة ينحصر أثره في الذكور دون الإناث؟، أيْ أنّ المُشرّع، ومن قبله العُرف، يميل إلى ربط قضية الشّرف بالذّكر دون الأنثى، فالأنثى مصدر عارٍ وعلى الذّكر أنْ يغسله بالدّم. ويظهر رأي المُشرّع واضحاً بأنّه ربَط الفحشاء بالمرأة من خلال المثال الذي ساقه في الأسباب الموجبة للتّعديل الواقع على المادّة 548 بالمرسوم التشريعي 85 تاريخ 28/9/1953، عندما استبدل بعبارة (في حال الجماع غير المشروع) عبارة (أو في صلات جنسية فحشاء) حيث جاء فيه «لما كانت عبارة (في جرم الزّنا المشهود) وعبارة (في حالة الجماع غير المشروع) الواردتين في المادة 548 لا تدلان على حالتين الأمر الذي لم يقصده واضع القانون لذلك أبدلت الثانية بعبارة (في صلات جنسية فحشاء) والمقصود بها الحالات التي يمكن وصفها بالجماع أو الزنا، فخلوة المرأة وهي عارية من ثيابها مع رجل أجنبي وما شابه ذلك من الأوضاع الفحشاء».
إنّ هذا التدرّج الذي مرّت بها المادة 548 وصولاً إلى إلغائها مؤخراً بالقانون رقم 2 لعام 2020 يُعبّر بوضوح عن السّياسة التّشريعية وتطوّرها، وتوجهها في حماية أفراد المجتمع أو بعضهم، فعندما ينصّ القانون على عذر مُخفّف أو عذر مُحلّ فإنّه يرفع العقوبة عن الفاعل أو يُخفّفها رغم ارتكابه فعلاً هو بالأصل جريمة مكتملة الأركان، وكان لنصّ المادّة 548 وموقعها في الباب الثّامن، الفصل الأوّل، المتعلّق بالجنايات والجنح التي تقع على الأشخاص يدلّ على قصد المُشرّع بأن يحمي الذكر القاتل بحجة الدّفاع عن الشّرف من العقاب الواقع على من يقدم على قتل أو إيذاء إنسان، وذلك لكونه أقدم عليه غسلاً للعار، وأفرد لهذا الدّافع مادّة مستقلّة على الرّغم من وجود نصّ عام في العذر المخفّف في ثورة الغضب الشّديد (المادّة 242 عقوبات) ونصّ خاصّ يتعلّق بالجرائم المرتكبة بدافع شريف (المادة 192 عقوبات) وتدرّجت هذه الحماية للذكر المكرّسة في المادّة 548 من إعفاء الفاعل من كلّ عقاب لاستفادته من العذر المُحلّ، إلى استفادته فقط من عذر مخفّف ينزل بالعقوبة إلى الحبس سنتين في القتل كحدّ أدنى (تعديل 2009) ثم أصبحت العقوبة الحبس من خمس إلى سبع سنوات في القتل (تعديل 2011) إلى أن أُلغيت هذه المادة نهائياً بالقانون رقم 2 لعام 2020.
في نظرة سريعة لنصّ المادّة 548 الملغاة، وفي جميع التعديلات التي مرّت بها، يُلاحَظ أنّ المُشرّع قد اشترط لتطبيقها أن يكون الفاعل قد شاهد بعينه قريبته في جرم الزّنا أو في صلات جنسية فحشاء، وأن يكون هذا الفعل مُفاجئاً له لم يكن يعلم به سابقاً. فإذا لمْ يتحقّق هذا الشّرطان يبقى الفاعل مُستفيداً من التخفيف المنصوص عليه في المادة 192 (الدّافع الشّريف)، وهو تخفيفٌ بسيطٌ للعقوبة ينزل بها من الأشغال الشاقّة المؤبّدة إلى الاعتقال المؤبّد أوْ المؤقّت خمس عشرة سنة، ومن الأشغال الشاقّة المؤقّتة إلى الاعتقال المؤقّت، وهذا النّهج هو ما سوف يسير عليه القضاء بعد إلغاء المادة 548 باعتباره كان نهجاً استقرّ عليه القضاء السّوري في التّعامل مع القتل بحجة حماية العرْض عندما لم تكن شروط المادّة 548 متوفرة على الرّغم من وجود بعض الاجتهادات القضائية لمحكمة النّقض التي طبقت على مُرتكب هذه الجرائم النصّ العام للعذر المُخفّف (المادة 242) وبالتالي خُفّضت عقوبته وفق المادّة 241 ليصبح حدّها الأدنى الحبس ستة أشهر.
إذاً، سيكون القاضي أمام تطبيق أحد نصّين لتخفيف عقوبة الفاعل، إمّا أنْ يذهب إلى اعتبار الفعل مرتكب بثورة غضب شديد فينطبق عليه نصّ المادّة 241 و242 ويستفيد منْ عذر مخفّف أوْ يطبَّق عليه نصّ المادّة 192 المتعلّقة بالدّافع الشّريف، وهو النصّ الخاصّ الواجب التّطبيق، وسيستمر هذا الرّبط بين الشّرف وقتل الأنثى. ولكن من سيثير هذه المسائل القانونية أمام القضاء؟، ففي هذا النّوع من الجرائم الذي يرتكبه أحد أفراد الأسرة ضدّ فرد أخر منها، ويظهر الذّكر بمظهر حامي شرف الأسرة من العار الذي ألحقته بها الأنثى ستكون القضية محصورة بين النيابة العامة كممثلة للحقّ العام من جهة، والفاعل المُدّعى عليه (الذكر) والمحام الوكيل عنه، ولن يكون في القضية جهة إدعاء شخصي عن الأنثى المجني عليها لتسوق الأدلة على أنّ الفاعل ارتكب جريمة مكتملة الأركان دون وجه حقّ، ودون دافعِ شريف، وغيرها من الدّفوع التي تفضح الحقيقة.
من يحمي الأنثى؟
أخيراً، وكي لا أبخس الخطوة التي قام بها المُشرّع مؤخراً بإلغاء المادة 548 حقّها، لا بدّ من أن أقول بأنّه تطوّر هام وخطوة إلى الأمام نحو الحقوق المتساوية بين النّساء والرّجال، إلّا أنّ هذه الخطوة على أهميتها ليست كافية على المستوى القانوني، فالمرأة ونتيجة التّاريخ الطويل من التّمييز والعنف المكرّس ضدّها قانوناً وعرفاً، هي الأكثر حاجة للحماية القانونية ولنصوص تمييز إيجابي تحميها، وبحاجة إلى تفعيل دور الجمعيات والمنظّمات المدني في رقابة الأحكام القضائية، وإمكانية تدخلها في الدّعوى التي تكون المرأة فيها هي الضّحية مادام قتل الأنثى مبرَّراً لأنّه دفاع عن الشّرف، ومادام الشّرف قضية ذكورية، واستسهال الإعتداء عليها والاقتصاص منها باعتبارها الطرف الأضعف قانونياً واجتماعياً وعرفياً ودينياً، بينما تنتهك أبسط حقوقنا سواء في الحرّية أو الكرامة أو الأمان دون أنْ نجرؤ على الدفاع عنها. وحدها المرأة هي التي نثور ضدّها عندما ترتكب فعلاً نعتقد بأنّه يمسّ أخلاقنا أو كرامتنا على الرّغم من أنّ فعلها قد لا يكون سوى ممارسة لحقّها وحرّيتها في حياتها أو جسدها.