رحلة السّوريات نحو عدالة القانون وإلغاء التمييز
محمّد العمر - صحفي سوري
خسرت الكثيرات من السّوريات حياتهنّ طوال العقود الماضية دون أنْ تتمكّن العدالة منْ إنصافهنّ ومعاقبة منْ أجرم بحقهنّ، لمجرّد أنه زيّف فعلته بعنوان "جريمة شرف".
ورغم التّناقض الهائل بين الجريمة والشّرف فإنّ المُشرّع السّوري الذي وضع قانون العقوبات عام 1949 مستنداً إلى نصوص قانون الجزاء العثماني 1858، والعائد بدوره إلى النّصوص القديمة لقانون العقوبات الفرنسي 1810، لمْ يلحظ هذا التناقض، واعتبر أنّ "الشّرف" قد يفضي إلى "جريمة"، وأنّ القانون يجب أنْ يحمي مرتكبها عبر نصوص تُشرّع ارتكاب القتل بوصفه أعلى مراحل الإجرام، على الرّغم من أنّ معنى الشّرف، حتّى من الباب اللغوي، يتصل بما له علاقة بالسموّ والرّفعة والنُبل، بينما يُشير معنى الجريمة إلى الذّنب وارتكاب ما يستحق العقاب، فيتناقض معنى الكلمتين حين يتصلان ببعضهما في مصطلح واحد، فكيف لصاحب الشّرف والنبالة ارتكاب قباحة تستحقّ العقاب، سيّما وأنّها تصل إلى أعلى مراتب الإجرام المتعلقة بإنهاء حياة إنسان بداعي الشّعور بالغضب والعار، فيما تُظهر معظم حالات ارتكاب هذا النوع من الجرائم أنّ دوافعها لا تتعلّق بما يتم ادّعاءه من قيم الأخلاقيات المزعومة، بل بأمورٍ تتعلّق بالسطو على ممتلكات المرأة أو حصتها من الإرث وما شابه ذلك تحت ذريعة "الشّرف" بغرض الاحتماء بالقانون واستغلال ثغرة "الدّافع الشّريف" لتزييف الجريمة وتحويل وصفها إلى فعل "شريف" يُحسب لصاحبه، ويجزى بألّا يُحاسب عليه، فتتحوّل بذلك جريمة قتل إنسانٍ لإنجازٍ تُعلي من شأنه المجتمعات على طريقة الشّعوب البدائية، وكأنّ الحضارة والمدنية لم تصل بعد إلى هذه المجتمعات.
وقد حاولت النّساء السّوريات على مدار العقود الماضية تعرية حقيقة تلك الجرائم وإعادتها إلى موضعها الحقيقي بوصفها "جريمة" بكل ما تعنيه الكلمة من معنىً، فانطلقت العديد من المبادرات والتجمعات الضاغطة من أجل تصحيح القانون وإعادة الأمور إلى مسارها، وتوّجت مسيرة النّساء السّوريات الطويلة بإلغاء المادّة 548 من قانون العقوبات مؤخراً والتي كانت تمنح العذر المُحلّ لمن فاجأ زوجه، أو أحد أصوله أو فروعه، أو أخته في جرم الزّنا المشهود، أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو قتل أو إيذاء أحدهما دون الآخر بغير عمد، كما يستفيد من العذر المخفف من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه في حالة "مريبة" مع آخر.
حيث اعتُبر إلغاء المادة خطوة هامة في وقف جرائم قتل الناس تحت قناع "الشّرف"، فيما بقيت المادة 192 من القانون ذاته تتيح للقاضي تخفيف الحكم إذا كان الدافع "شريفاً" وفق نصّ المادة، دون توضيح معنى وصف "شريف" بدقة، الأمر الذي قد يفتح باب التأويل أمام جرائم مماثلة لما كانت تنص عليه المادة 548، وإمكانية الاستعانة بها للتخفيف من الأحكام بحق مرتكبيها.
ورغم أنّ إلغاء المادة المخفّفة لمرتكبي جرائم "الشّرف" يُعدّ تقدّماً نحو حماية المرأة من العنف بنصوص قانونية، فإنّ التشريعات السّورية لا تزال تحمل في طياتها تمييزاً ضدّ النّساء في المسائل المتعلقة بالجرائم لاسيّما الخاصّة بجرم الزّنا، حيث يتعامل القانون مع المرأة على أنّها "الزانية" وفق نصّ المادة 473 ومع الرّجل على أنّه "شريكها"، فيعاقب المرأة بالحبس من 3 أشهر إلى سنتين وبالعقوبة نفسها لشريكها إذا كان متزوجاً، وإلّا فالحبس من شهرٍ إلى سنة. وتذكر المادّة أنّه فيما خلا الإقرار القضائي والجنحة المشهودة، لا يُقبل من أدلّة الثبوت على "الشّريك" إلّا ما نشأ عن الرّسائل والوثائق الخطية التي كتبها، وتترك المادّة الباب مفتوحاً أمام طرق الإثبات على المرأة.
وفي سياق التّمييز القانوني ضدّ المرأة، فإنّ القوانين السّورية تشهد غياباً للنصوص التي تحمي المرأة من العنف الأسري وتجريمه بالنصّ القانوني أو من اغتصاب الزوجة بوصفه فعلاً جرمياً ينتهك إنسانية المرأة وحقّها في امتلاك جسدها، أو من التحرّش الجنسي بأشكاله والذي لا يجد رادعاً قانونياً له يحمي ضحاياه من النّساء اللواتي يقع عليهنّ ضرره بكافة أشكاله الجسدية النفسية وسواها، بل يجد المتحرّش لنفسه مبرّرات اجتماعية روّجتها المفاهيم التقليدية المغلوطة والتّمييزية ضدّ المرأة والتي تُحمّل الأنثى على الدّوام مسؤولية جرم التحرّش الذي يرتكبه الذّكر بحقها، وكلّ ذلك يستدعي المزيد من العمل المدني للدّفع نحو خلق بيئة تشريعية وقانونية تحمي المرأة وتُنصفها أمام القانون، وتُعيد موازين العدالة إلى نصابها، ومفاهيم المواطنة أمام القضاء إلى موضعها الحقيقي دون عنصرية التّمييز بين المتقاضين بحكم جنسهم.