رحلة رجل الشّمال نحو الشّمال

 

فائق حويجة-مركز المواطنة المتساوية

عصرَ يوم 22 نيسان، اتصلت صديقة مشتركة تواظب يومياً على زيارة نورمان في المشفى، وأخبرتني أنّ  وضع نورمان الصحي مقبول، وأنّ التحليلات والمؤشرات أفضل من الأيام السابقة بكثير. لكنّها، بالعكس من مقدمة الحديث،  أجهشت قائلة: 
(حاسًة إنّو بدو يموت..وضعه النفسي سيء جداً، كأنو عم يستسلم للموت. ليش؟ مابعرف..!، هل أعود للمشفى لتكلّمه من هاتفي؟).  قلت لها:
( طولي بالك .. طالما عم تقولي إنّو وضعوا أحسن، والتحليلات إيجابية، لا تتشائمي، ولا تعذبي حالك بالعودة .. بكرا بس تزوريه اتصلي بي لأتحدث معه..).

لم يخطر ببالي إطلاقاً في تلك اللحظة أن هنالك شيئاً اسمه: موتْ..!.        
في صباح اليوم التالي استيقظت على إشعار هاتفي، كانت الرّسالة من كلمتين: مات نورمان..!. 

***

الحديث عن الموتى أمرٌ شاق، وعن الموتى من الأصدقاء أمرٌ أكثر صعوبة، أمّا الحديث عن أمثال نورمان - إلاّ من باب الرثاء – فهو مجازفةٌ كبيرة.

***

امتاز نورمان – برأيي – بثلاث خصالٍ لافتة:
ثقافة عميقة ومتنوعة، شاعريةٌ ممزوجة بالفكاهة وسرعة البديهة، مودةٌ معجونةٌ بالدماثة واللطف. هذه الخصال البارزة جعلت من نورمان شخصاً محبوباً ومرغوباً حضوره في الكثير من الأماكن، وهي ذاتها مع سماتٍ أخرى في شخصيته،مثل: عدم الالتزام بالمواعيد والمواضيع، واستطراداً بالأشخاص، وضعت البعض على مسافةٍ منه، خصوصاً أولئك الأشخاص من «محترفي» السياسة، أو «متسلقيها»، فالسياسة في العرف السوري - المعاصر منه خصوصاً - تقتضي درجة من التخندق وضيق الأفق اللازمين للأنموذج السياسي السائد.

  من هذه الزاوية، كان نورمان شخصاً إشكالياً، فهو محبوب والكثيرون يريدونه في صفًهم، لكنه كان بسببٍ من خصاله، يقف غالباً  في صفٍ نفسه، وبما تمليه عليه نفسه من قناعات، الأمر الذي جعله عرضةً لهجماتٍ بائسة – محزنةٍ ومضحكةٍ - من كثيرين.

أمرٌ آخرُ ساهم في تكريس إساءة فهمه – أو تعمُد الإساءة – وهو ما يتعلق بموقفه وكيفية تعاطيه  مع تطورات الواقع السوري بعد 2011. إذ كيف لرجلٍ مثله أن يحافظ على علاقاتٍ إنسانيةٍ مع أشخاصٍ على الضفتين؟. ثمّ كيف له أن يحمل رأياً سياسياً واضحاً – حتّى لو كان جدلياً - ويرفض في ذات الوقت أن يكون أنموذجاً للرّجل الصغير الذي ألفناه على هذه الضفة أو تلك؟. كانت المسألة معقًدة وغير قابلة للفهم من قبل الأصوات العالية.                

***

في العام 2013، وبعد انضمامه لمركز المواطنة المتساوية، قال لي: «نحن متفقان في الرؤية البعيدة ومتفقان على ضرورة البناء القانوني – الحقوقي للوصول للمواطن الذي يمكن له أن يقوم  بالتغيير الإيجابي. وهذا بالنسبة لي يكفي - رغم الخلاف السياسي الراهن - في كيفية التعامل مع المشهد الراهن». في لقائنا الأخير ببيروت، قبل وفاته بأسبوعين، قال لي: 

 «آخخخخ . غلطنا كتيييير..المعركة اليوم معركة مواقع .. وبالتالي فهي طويلة. سوى ذلك هو وهم أو كذب..».

هذه النقلة في طريقة التفكير محمولةً على رفضه التشبيح – من كل الجهات - جعلته في مرمى سهام كثيرين، من شخصيات مصمتةٍ ذات بعدٍ واحد، حدً اتهامه بالنفاق والمداهنة، وصولاً لتصوير مواقفه على أنها نابعة من خلفية طائفية معينة (كذا ..!).

***

شخصيته الإشكالية هذه، لم تحجب حزناً شديداً واضحاً، لفً كلً من عرفه، قريباً منه كان أو بعيداً.  حتّى أولئك الذين مافتئوا يهاجمونه تصريحاً أو تلميحاً – وهم كثر – راحوا يتقبلون التعازي ويوزعونها، ليس من منطلقٍ إنسانيٍ فقط – وهذا حق ومفهوم – بل وبما يوحي البعض، أنهم والمرحوم كانوا (من الروح للروح )، وهذا نفاق بائسٌ، لكنه مفهوم أيضاً..!. هل كان السبب في ذلك ناتجٌ عن حيوية شخصه وحضوره اللافت وقربه الإنساني من الجميع؟. 

أم أن الدماثة والشاعرية وحسّ الفكاهة، هي السبب؟.     
 هل كانت عبثية الموت بمواجهة عاشقٍ حقيقيٍّ للحياة رغم كلّ الموت العبثي الذي يحيق بنا من كلّ الجوانب هي التي فجرت هذه المشاعر الإيجابية الجياشة عند كثيرين؟، أم أنّ اجتماع القريبين منه والبعيدين عنه، في حزنهم عليه، زاد عبثية موته،عبثيةً أخرى؟.   
 لا أعتقد بجواب واحد، لكنني أعتقد بأنّ الأقرب للفهم والأدنى للحقيقة هو أن المختلفين في شخص نورمان حال حياته، قادهم عبث الموت لتلمّس الجوهري في إنسانه وإنسانهم ..!.

***

في دوامة التفكير والحزن بُعيد سماعي بوفاته، قفز إلى ذهني الفارس النبيل دون كيخوته بكل شموخه وعزَته، مطارداً حلماً – سراباً، لن يصلَ إليه، لكن لابدً من تعقُبه وإلا كفًت الحياة عن أن تكون مبتغى .. بعد أيام وبعد أن هدأ الجرح، عدت لمراسلاتي الخاصة مع نورمان، فوجدتُ هذه:   
 

«أبا علي الصديق والرفيق الحبيب:

أقدم لك هذا النص الذي صغته كمعايدة للأنقياء، في ميلادهم،

الذين تقودهم أرواحهم النبيلة إلى الأقاصي من غير سؤالٍ عن الجهد والأتاوة . ...

 ( نحن الذين رفعنا قلوبَنا كالسيف،

ومضينا إلى الليل نطلب ثأرَ الشمس،

 خذلتنا الريحُ مراراً وانطفأت النجومُ في دروبنا المقفرة ..

القابضون على جمرةِ الحبِّ في كلِّ الزمان،

كسَرَنا الغياب وسلَبَنا أعمارنا في وحشةِ الطريق !

 كأننا "دون كيخوته" يلهث في المساء خلف الشمس وهي تتأهب للشروق من ورائه،

 لكننا في كل المعارك الخاسرة أمام طواحين الهواء في عشقنا المكسوروشوارع المدن الغريبة،

كُنّا الأجمل ونمضي الأجمل !!!

 كل الزمان وأنت وعائلتك وأحبتك بألف خير ..»

 

إذن، هو ذا الجامع بين الشخصين: حُلمٌ، شاعريةٌ، تصالحٌ مدهشٌ مع النفس، وركضٌ لا يهدأ وراء سرابٍ لا يمكن الوصول إليه.

 ( كأننا "دون كيخوته" يلهث في المساء خلف الشمس وهي تتأهب للشروق من ورائه..)                

 هل كان يقرأ أم يحلم؟، أم كان يرغب؟!.

***

رحل نورمان ( رجل النور )، هل رحل شمالاً طالما سمًى نفسه (رجل الشّمال)؟. 
ليست  الوجهة هي المهمة، المهم كان هو الفقد، كان هو الرحيل..!.

*******