علمانية الإسلام ج1 في معنى القول بأن الإسلام دين ودنيا

علمانية الإسلام

الجزء الأول: في معنى القول بأنّ الإسلام دين ودنيا

رياض درار- باحث في التّجديد الدّينيّ



تطورت عبر التّاريخ علاقة خاصة بين العقيدة والحياة في الوعي الإسلاميّ، جعلت من الدّين إطاراً أوسع بكثير من الهداية، تحت إشراف الدولة رمزاً للسّياسة أيضاً.

 إنّ كلمة دين لا تعني مجرّد سلطان الوحي وقدسية الكلام الإلهي. ولكنها تعني، وبقدر ما أصبح الدّين مركز بلورة الاجتماع المدنيّ كله في السياسة والاقتصاد والثقافة، بناءً واسعاً أساسه النصّ القرآني الثابت، ولكنّه يضمّ كلّ الاجتهاد الإنسانيّ والفكريّ والماديّ، كالفقه والعلم والجهاد. فالدّين الجزء الأكبر منه بناءٌ عقليّ إنسانيّ. وكلّ المنظومات الفقهية، والعقائد، والاجتهاد، هي عملٌ عقليّ على أرضية الوحي. وبهذا المعنى أصبحنا نتحدّث عن الإسلام باعتباره ديناً ودنيا، أي وحياً وعقلاً، روحاً ومدنية، تربيةً وحضارة، وهذا الشّمول هو الذي أوحى لحسن البنّا، ومن قبله للمودوري، برفع شعار (الإسلام دينٌ ودولة)، فالإسلام يعني هنا –أيْ كدولة – الجماعة الإسلامية نفسها التي لا يمكن أن تمارس إسلامها إلا إذا حققت الدّولة، أيْ صانت استقلالها. ولكنّ هذا لا يعني أنّ الدّولة الواجبة للجماعة الإسلامية هي دولة دينية، أو بالأحرى لا يُشتق من لزوم نصب السّلطة أنْ تكون مبنية على الدّين، أو حتّى واجبة دينياً. إنّ الأمر يتعلّق بالشّرعية السّياسية، وهي تتعلّق بالاطار القانونيّ والخارجيّ الشّكليّ للسّلطة، لا بينية السّلطة نفسها، والحقيقة الأوسع تأكيداً، والتي جرى تحريفها في العصر الحديث إلى كلمة (الإسلام دين ودولة) هي عبارة (الإسلام دين ودنيا)، فالعبارة الأولى (الإسلام دين ودولة) في ذهن المعاصرين جعلت الإسلام في نظر أتباعه يلحق كلّ ما في الدّنيا من رغبات ومصالح اجتماعية وبشرية بالعبادة والإيمان، وبالتالي إلحاق مصالح الناس ومعاملاتهم في الدّنيا برجل الدّين، وهذا ما حرص الإسلام على تجاهله وتجنّبه عندما حدّد العارفون به أفاقه عبر مقولة (الإسلام دين ودنيا) بمعنى استخدام العقل والعلم، وممارسة السّياسة والصّناعة وكلّ الأعمال البشرية الطّبيعية، ممّا يعادل مفهوم الحضارة الذي عُرف في العالم بالحضارة الإسلاميّة. إنّ الالتفاف في كلمة الدّولة على كلمة الدّنيا هو عملٌ يُلحق الواقع الاجتماعيّ، ورغبات ومصالح البشرية، بأجزاء العبادة لترتبط نهائياً بأقوال الفقهاء الذين قوننوا الدّين ليصيروا بعد ذلك صورةً عن رهبان المسيحية الأوائل، مصدر قيم، حيث صاروا في أذهان النّاس المتأخرين، عناصر شغب على الفهم الدّيني، وفهم النصّ الدّيني، فأذهان العامّة والمتعصبين جعلت النصّ الفقهيّ البشريّ مقدّساً قداسة النصّ الإلهيّ، وذلك هو عين الانحراف وتجميدُ النصّ.

إنّ دولنة الدّين تعني السّيطرة على حركة النّاس لصالح الفئات الحاكمة أياً كانت، ولو تأملنا ملياً في الموضوع لأدركنا أنّه لا يمكن أنْ تكون هناك دولة دينية من دولة الاعتراف بمفهوم العصمة، أو المعرفة النابعة من الوحي، وإلاّ فإنّ كلّ قرار هو قرار بشري، وبالتالي نابعٌ من الاجتهاد العقليّ حتّى لو قام بها رجلُ دين، هذا هو أصل الكلام الدّيني في الإسلام، وهو الذي يفسّر الجهود الاستثنائية التي بذلها المسلمون عبر التاريخ للحفاظ على القرآن وحفظه من التّبديل، فهو التّجسيد الوحيد للوحي والمعرفة الإلهية، وما عداه كله فهو بشري ومدني.

 لم ينظر الإسلام لفكرة رجل الدّين، ولكنّه ربط علوم الدّين بالعلم عامة ومن هنا جاء اسم العالم والعلامة، وهي صفة لا تختصّ بالضّرورة بالشّؤون والعلوم الدّينية. والواقع، إنّ انتفاء القدسية عن أي شيء ما عدا الله، واعتبار كلّ سلطة غير سلطته بشرية، أيْ مدنية وزمنية- ومنها سلطة رجل الدّين بما هي سلطة علمية قائمة على الاجتهاد والتخمين والرأي، ومن ثم عدم الجزم والالزام فيها- هو أصل إقرار حرّية المسلمين ومسؤوليتهم الشّخصية أمام غيرهم وأمام ربهم في فهم وتفسير وتأويل كتابه وأوامره. من هنا أخذ القرآن حالة استثنائية في الوعي الإسلاميّ باعتباره الأثر الوحيد لله، وقدسيته في هذا العالم، ومع ذلك حتّى القرآن كأثر مقدّس لم يطلق عليه في الإسلام (الكتاب المقدس)، ونحن لا نصف أي شيء بالتّقديس على الإطلاق. إنّ صفة القرآن أنّه عظيم،كريم، مجيد، حقٌّ، ذكْر حكيم، كتاب الله.. وقدسية القرآن تأتي من حيث أنه تجسيد لكلام الله. إنّ مقولة الإسلام دين ودنيا تُقابل المفهوم الحقيقيّ لمعنى العلمانيّة، لا بالمعنى السّائد والتقليديّ والسّاذج: فصل الدّين عن الدّولة، وإنّما بالمعنى الفلسفيّ من خلال مستوى التّركيب النّظريّ التي تسعى من خلاله إلى إدراك الواقع وتفسيره، والكشف عن قوانين حركته، ومن ثم اقتراح الحلول المناسبة للسيطرة عليه. إنّها العمل على تحقيق مصلحة جديدة بين الحياة الدّنيا والآخرة، بين العقل والوحي، بين الدّولة والدّين بحسب مفهوم عليّ بن أبي طالب في الحديث الشهير عنه: «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً»، وهذا المفهوم يُعيد للإنسان ثقته بعقله، ويصالح بينه وبين الحقيقة الدّنيوية، ويُطلق قوى العلم والإيمان، ويفتح أبواباً جديدة للمستقبل والحياة، ويعمل على إحياء الأمم، وإحياء الدّين. فليس الدّين تمسّكٌ شكليّ ومظهريّ، أو اقتداء بطقوس، أو بحث عن تخريجات ومهارب ومسارب وفتاوى. بل هو رحيل لتطبيق الشّرع وتكاليفه، وليس الدّين مبالغة في أناشيد الحبّ الإلهيّ الواهي سعياً وراء الصّفح والغفران الشّخصيّ، أو عن طريق الاعتراف عند كاهن. الإيمان والدّين صدق في المشاعر والاعتقادات والمواقف في أمور الحياة، وأمور الدّين معاً. والعلمنة بهذا المعنى تسعى لتنقية الشّعور الدّيني، التي تفترضها حرية الضمير، ليعلن جزء من المجتمع موقفه الخاص بشكل مختلف عن رأي الأغلبية، حتّى لو كان مناقضاً لها. فليس ذلك خسارة حقيقة للدّين، فمن الأفضل للدّين أن يخرج منه الكاذبون علانية من أن يتحولوا إلى منافقين يتمسّحون بالدّين، ويظهرون الورع، ولا يردعهم رادع عن استخدام الدّين لمصالحهم واستغلاله لغير أهدافه. إنّ تزايد الرّياء والنفاق في الدين لا يسيء فقط للمؤمنين الحقيقيين ويدفع إلى إفساد ثقة الناس بالمؤمنين ورجال الدين، ولكنّه يهدّد أكثر الأخلاق الاجتماعية والضمير العام ذاتيهما. إنّ الصّراحة والمكاشفة الدّينية التي يجرها موقف الصّدق وحرية الضمير تُعيد الدّين إلى حقيقته، وتُبرز أهمية الإيمان والتصديق في رسالته. فالموقف العلمانيّ يُتيح إعادة بناء وتجديد الضّمير الدّيني الذي لا يمكن أن يكون له قاعدة أخرى غير الصدق. والقرآن الكريم يؤكّد على هذه القاعدة من خلال خطابه للأعراب: ﴿قالت الأعراب آمنّا، قلْ لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم﴾، هذا الخطاب الذي يؤكّد ضرورة الانتظار في التعبير عن القيم، والدّخول إلى مجتمع المؤمنين عندما يصبح الإيمان منبعاً للقيم، ولإحياء الوجدان المقتول. وعندما يصبح الدّين قاعدة أساسية للأخلاق لا ينتظر دعماً عبر قانون قهريّ تفرضه السّلطة. وعندها يتحوّل إلى مصدر قيم التضامن والألفة والمودة البشرية، وهذا هو مجتمع المؤمنين الذي يرفع الشعار  «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، فالعلمانية لا تستهدف القضاء على الدّين في حقيقتها، بل تستهدف إحياءه وتوسيع دائرة المتعاملين معه، والمستفيدين منه، والقارئين والفاهمين لحقيقته. وهي بذات الوقت تعمل على إعادة الاعتبار للحياة الدّنيا بما تحتاج إليه من عناصر التنظيم والانتظام داخل الدّين أو خارجه، وهي المكانة التي أعطاها الإسلام للحياة الدنيا: ﴿قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده، والطّيبات من الرّزق، قل هي للذين أمنوا في الحياة الدّنيا خالصة، وكذلك تفصل الآيات لقوم يعلمون﴾، كما أنّها تعمل على تمجيد المواهب المبدعة، والحثّ على المغامرة والنّظر في كلّ شيء: ﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق﴾، وهي تعمل على مراعاة حاجات الجسد والروح دون تمييز : ﴿إنّ لربّك عليك حقاً، وإنّ لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعطِ كلّ ذي حقّ حقّه﴾، كما أنّها تدعم مكانة العقل باعتباره المقابل للوحي، الدّاعم له، والمكمّل وليس النّقيض. وإنْ شئت فقل جاء القرآن هاد ٍ للعقل، وإنْ شئت فقل إنّ القرآن امتدح العقلاء حين ذمّ عديمي التفكير وشبههم بالأنعام، فقال: ﴿إنْ هم كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا ﴾، وبهذا لم تبرز العقلانية، ولا العلمانية، ولا الإنسانية في الإسلام كمذهب خاصة وقائمة بذاتها، لأنها كانت مندمجة في المنظومة ذاتها وهذا هو أصل العبارة الشهيرة والتاريخية التي يرددها المسلمون (الإسلام دين ودنيا) والتي يؤكدها قوله تعالى:﴿ولا تنسى نصيبك من الدّنيا﴾، وبهذا يبرز الإسلام كسلطة ودولة ومجتمع، وسياسة وكسب، واختراع وعمل، وزواج ومتعة، وذوق وجمال، وحسّ عميق بالحياة والتجربة والواقع دون تنازل عن المبادئ الكبرى الملهمة: ﴿وابتغ فيما آتاك الله الدّار الآخرة، ولا تنسى نصيبك من الدّنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغِ الفساد في الأرض إنّ الله لا يحبّ المفسدين﴾، هذه الآية يشرحها القول الدّارج والمثل العربيّ العميق: «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا»، أي لا تكفّ عن البناء وبذل الجهد والتّمتع بالدّنيا اعتقاداً أنّ السّاعة آتية غداً، وإن كان ذلك (فلو كان بيدك فسيل وقامت القيامة فازرعه)، ولا تتوقف عن البناء حتّى لا يؤدّي ذلك لفناء العالم وانعدامه. وهذا هو معنى العمران، أي بناء وإعمار الأرض بكل ما يرتبط فيها من مسرّات وآلام، ومعرفة ضرورية للقوانين والقواعد والسبل وبذل الجهد (من الجهاد) والتضحية فيها. «واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا » أي اسلك السّلوك الملائم على الأرض حسب قواعد الحقّ والقانون والأخلاق، ولا تعتقد أنّ كلّ ما يخطر بالذّهن يمكن تحقيقه دون اعتبار أو مراعاة الآخرين، فلست وحدك، وأمامك مسؤولية في الآخرة وعليك رقابة وحساب. وهكذا من الممكن دفع الإنسان إلى بذل الجهد والبناء، وفي الوقت نفسه ضمان أن يتمّ هذا البناء حسب قواعد العدل، وأن يقود إلى ترسيخ مشاعر الأخوة والتضامن البشريّ وعدم ضياعه، فالنفس الدّنيوية عامل مهم، وهو وراء إطلاق روح المبادرة الحضارية في المجتمعات وجزاؤه وراثة الأرض إذا تمّ في سياق شروط التّقدم الحضاريّ، وكفالة الجهد البشريّ وعدم ضياعه، فوراثة الأرض هي جزاء الجهد المادّي، كما أنّ جزاء الجهد الرّوحي والتّعبدي كسب الآخرة، كما كتب ربنا في كتب السماء: ﴿أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾.