علمانية الإسلام ج2 في معنى العلمانية والإشكالية المرافقة لها

علمانية الإسلام

رياض درار-باحث في التجديد الدّينيّ

الجزء الثاتي: في معنى العلمانية والإشكالية المرافقة لها


يستدعي الحديث عن العلمانية وفهم مضمونها ومقاصدها وغاياتها ومستقبل العمل بها التّمييز مسبقاً بين مستويين:
المستوى الأوّل: مستوى الواقع الذي تسعى العلمانية، أو يُفترض أن تسعى، لمواجهته .
المستوى الثّاني: مستوى التركيب النظريّ لهذا الواقع الموضوعيّ، أي إدراكه وتفسيره والكشف عن قوانين حركته، واقتراح الحلول المناسبة للسيطرة عليه .
فكلّ نظرية اجتماعية هي مزيج من تحليل الواقع كظاهرة خارجية مستقلة عن الوعي، ومن الوعي بضرورة تحويل هذا الواقع في الاتجاه الملائم للقيم الاجتماعية السّائدة، فهي تتضمن بالضرورة جانباً معرفياً قابلاً للنّقاش العقليّ، كما تتضمن جانباً قيميّاً يُشكّل جزءاً من العقيدة التي تغذّيها الآمال والآلام والمخاوف والتطلعات والمشاعر المختلفة في كل عصر ومجتمع.

والخلط المتزايد اليوم في موضوع العلمانية بين ما تُمثله من نظرية لفهم الواقع، وبين الواقع الاجتماعيّ والسّياسيّ المتحول نفسه، هو السبب الذي يدفع البعض  -الذي لا يقبل بالأطروحات الفلسفية لهذه النظرية ومسبقاتها- إلى رفض شرعية المشاكل الواقعية التي تطرحها. كما يدفع البعض الآخر الذي يأخذ بهذه النظرية إلى تشويه صورة الواقع العملي الذي يريد أنْ يطبقها عليه. إنّ منظومة القيم التي تتحكّم برؤيتنا للواقع كثيراً ما تمنعنا من رؤية حقيقة ما يجري فيه، وتجعل من الصّعب التفاهم حول طبيعة التحولات التي نشاهدها معاً. العلمانية لم تشذ عن هذه القاعدة، ففي الظاهرة الدّينية – السّياسية الملحوظة هذه الأيام يختلف النّاس بالنّظر إليها بحسب رؤى الذين يحتكمون إليها :
- البعض يرى الدّين في نهوض مستمر يسعى لاستعادة نفوذه في الواقع الاجتماعيّ.
- والبعض الآخر يرى أنّ القيم الدّينية قد فقدت قدرتها في توجيه السّلوك البشريّ والسّيطرة عليه.
- والبعض يرى أنّ العودة إلى قيم الدّين تعبيراً عن تهافت قيم العلمانية واندحارها.
- والبعض الآخر يرى أنّ ذلك ردّة ظلامية تهدف إلى القضاء على الحرّية العقلية والسّياسية.
وهكذا حُكم الأسبقيات في كلّ عصر وعلى أية نظرية، مع أنّ صحة النّظرية قد لا يُثبت وجود واقعة تاريخية. وبالمقابل، إذا أخطأت نظرية في تفسير واقعٍ ما فلا يعني ذلك إلغاء الواقعة التاريخية. إذاً، فأوّل شروط النّظر العلميّ هو الاعتراف باستقلال الواقع وتميزه عن العقل، ذلك أنّ مفهوم الواقع من أكثر المفاهيم صعوبة وقدرة على التملّص من الوعي والهرب أمام الإدراك، لأنّه يُمثل التّحول الدّائم والمتناقض والمشعث الذي لايمكن الإمساك به وتنظيمه إلاّ بفرض وعيّ خارجيّ عليه .
من هنا يبدأ الحديث عن إشكالية العلمانية، فهي نظرية، والنّظريات ليست عقائد مقدسة، إنّما هي أدوات إجرائية لفكّ تعقيدات الواقع، والأداة تفقد قيمتها إذا ضعُف مردودها، أوْ حلّت محلها أداة أخرى أقدر على القيام بوظيفتها، دون أنْ يعني ذلك إدانتها، لأنّها تصبح ممقوتة، أو ملغاة منهجياً بسب ولادة ما هو أصلح منها .
فالعلمانية كنظرية بدأت من مصطلح بسيط: علمانيّ يساوي دهري، دنيويّ وزمانيّ. بمقابل مفهوم راهب، أيْ رجل دين ولاهوت. وهي مقابلة مثلما نقول مدنيّ مقابل عسكريّ، ولايعني هذا إخراج العسكريّ من وظيفته، فهو يعرف أسرارها، ويملك شرعية التعامل معها، ولكنّه -أي العسكريّ- عليه أن يترك وظيفته السّياسية للمدنيين، أو ينخرط في جوّ السّياسة العام متخلياً عن وظيفته، حتّى لا يفرض جواً على جوّ، ولا فضاءٍ على فضاء .وهذا التّقابل في العصور الحديثة تمثّل بالدّولة كممثّل للوجه الزّمنيّ، والكنيسة كممثّل للوجه الرّوحيّ .
وقد قادت التّطورات العنيفة لقيام فصل عنيف بين الدّولة والدّين خلال فترة محدّدة، لكنّها عادت بعد ذلك لعلاقة التّفاهم بين ما هو زمنيّ وما هو روحيّ .
في هذه الحالة تمثّل الموقف الصحيح لمقولة «دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، بمعنى المفهوم المتجدّد لتطوير العلاقة بين ما هو زمنيّ وما هو روحيّ باستمرار، بغاية عدم سيطرة أحدهما على الآخر، وليس بغاية الفصل بينهما، وهذه الحالة المثالية عرفها الإسلام الأوّل ممارسة، وهي من صلب موضوعه فلسفةً، أيْ التحرّر السّياسي عمّا هو دينيّ، والقصد منه تحرّر الدّولة لا الأفراد، لأنّه لا يمكن بحال من الأحوال أنْ يتحرّر الأفراد من الدّين، حتّى الملحد فإنّ دينه الإلحاد، وهو دين اختاره المرء بحريته وعلى مسؤوليته، لذلك فإنّ الدّين حقّ خاص تحميه عدالة الدّولة .
أمّا التّحرر السّياسي فهو حقّ يتعلّق بالإنسان الواقعيّ، الفرد المواطن في دولة، دون أنْ يقضي ذلك على التّدين الفعليّ للإنسان، أو التّقليل من شأن الدّين.
والتّحرر السّياسيّ يتطلّب استقلالاً عن السّلطة الدّينية، بمعنى ترك الحياة للدّين، وترك السّياسة للدّنيا. أي استقلال السّلطة الزّمنية عن السّلطة الدّينية. وهذا نوع من الفصل بين السّلطات تحقيقاً للتّوجه الدّيمقراطيّ القائم على أساس العقلانية .

هنا تبرز العلمانية كروحٍ للمجتمع المدنيّ، وكما يقول أركون «إنّ العلمانية هي موقف للرّوح إزاء قضايا الوجود، قضايا العمل والمعرفة قبل كونها نظاماً سياسياً اجتماعياً يقوم على فصل السّياسة عن الدّولة «.هنا يبرز دور الإسلام في موقفه من العالم ومن الآخر، وفي عقلانيته السّياسية. فهو يمثّل هذا التّوجه في مصدره ونصّه الأوّل، وإنْ انحرف به التطبيق فيما بعد نحو استبداد الدّولة الدّينية، نحو الحكم المطلق باسم الدّين، ولنا في ظاهرة الخوارج نموذجاً.
إنّ العودة إلى الأصول والمصادر الأولى تجعلنا نستبعد قيام دولة إسلامية بالمفهوم الدّيني، وإذا صحّ التّعبير، يمكننا قبول التّوجه العلمانيّ في الفصل بين السّلطات، مع الاحتكام للأخلاق التي يوجهها الدّين من غير أنْ يكون الحكم دينياً، إنما هو حُكم يدير العلاقات في المجتمع وفق المنظور العلمانيّ الذي رأيناه في الصحيفة/ الدّستور المدنيّ العظيم، وعلى قاعدة لا إكراه في الدّين، من غير أنْ ننسى أنّ النصّ الأوّل يُوجهنا إلى مسألة التّفريق بين ما هو دينيّ وما هو سياسيّ على قاعدة ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
وفي الحديث النبويّ توجيهٌ إلى هذا الموقف حيث يقول: «إنّكم سترون أثرةً بعدي وأموراً تنكرونها، قالوا فما تأمرنا يا رسول الله؟. قال: أدّوا إليهم حقّهم وسلوا الله حقّكم». حديث رواه ابن مسعود في البخاري ومسلم. وكما نرى فرسول الله يقول: بعدي.. لأنّه نبيّ معصومٌ قادر على دمج السّلطتين السّياسية والدّينية بيده دون أنْ يزلّ أو يُخطئ، ولكن من يضمن الرّجال بعده ألاّ يزلوا، أقصد الحكّام وولاة الأمر. ولذلك أرسى الرّسول(ص) مفهوم الفصل بين السّلطتين احتياطاً حتّى لا يختلط ما لقيصر بما هو لله، وما لله بما هو لقيصر. وحتّى لا يتحول الأمر إلى استبداد باسم الدّين كما حصل في دولة المُلك العضوض .
وفي تنبيه آخر لهذا الفصل، روى أبو نعيم في دلائل النّبوة عن رسول الله (ص) قال: «ألا إنّ رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إنّ كتاب الله والسلطان سيختلفان فلا تفارقوا الكتاب».

إنّ الخطاب السّياسيّ المعاصر مارس السّياسة لا كخطاب يواجه الواقع السّياسيّ القائم على حدّ تعبير الجابريّ. بل كخطاب يبحث عن واقع آخر، فهويقف على الواقع رغم أنّه يدّعي تحليل الواقع، ويجيب على الأسئلة المعاصرة من ماضي الإسلام المجيد، أو من الحاضر الأوربيّ المتمدّن، وهذان القطبان جذبا المفكر المعاصر بوجهيه السلفيّ والليبراليّ، وكأنّما يمارس هذا الخطاب السّياسة في موضوعات غير سياسية، بمعنى لا علاقة لها بعلاقة السّلطة بالمواطن، والمواطن بالسّلطة، أيْ مشكلة الدّولة والمجتمع والعلاقة بينهما.


إنّ الخطاب السّياسي المعاصر هو خطابٌ غير مباشر، غير صريح.مرّة يلجأ للماضي، وأخرى يلجأ للرّمز على طريقة كليلة ودمنة يتكلّم على لسان الحيوانات، أو من خلال الحكم والأمثال، دون أنْ يتناول قضايا مباشرة، وهذا حال السّلفي. وأخرى يلجأ إلى التّعميم، ويبتعد عن مجابهة الواقع بشكل مباشر، ويضرب أمثلته من مجتمع غيره، بدءاً بالطهطاوي الذي وصف لنا مجتمع التمدّن الفرنسي، ونهاية بكل وجوه الماركسية التي شرعنت للاشتراكية بوجوهها السوفيتية والصينية، المثالية والعلمية، أو هي شرعنت لمجتمعاتها من خلال الليبرالية الغربية، وهذا هو حال الليبرالي، القومي والمادّي العلمي ...الخ.


في موضوع العَلمانية وعلاقتها بالإسلام نحتاج لحديث موضوعيّ بعيد عن الانفعالات، ثمّ هو حديث مباشر لا يلجأ للتعميمات ولا للرّمز، ذلك أنّنا لا نحاول هنا أن نتحدث عن علاقة بين موضوعين متشابهين أو مختلفين، إنّما حديثنا يحاول أن يوضّح أنّ العلمانية صيغة متضمَّنة في الإسلام، بمعنى أنها لا تختلف عنه وكل خلاف معه غير مبرر ومصطنع .
وحتّى لا يعتبر أحد قولي هذا بدعاً من الأقوال، أرجو أن تذكروا فترة تحدّث فيها المتحدثون عن ثورية الإسلام في عهود سيادة الثورات والتغيرات الجذرية ومفاهيمها، كونها لفظة مستوردة. وقد فَعَل ذلك القوميون والإسلاميون معاً، فلعماد الدّين خليل كتاب باسم «الانقلاب الإسلامي»، ولنديم البيطار كتاب «الايديولوجيا الانقلابية «.

وفي عهد سؤدد الحركات الاشتراكية تحدّث المتحدّثون عن اشتراكية الإسلام، وكم ردّدت أم كلثوم من شعر أحمد شوقي:الاشتراكيون أنت إمامهم. حتّى قال عبدالناصر : «كانوا يصفقون لأمّ كلثوم وهي تردّد الاشتراكيون أنت إمامهم، ولما طبقنا الاشتراكية حاربونا»، وللدّكتور مصطفى السّباعي كتاب «اشتراكية الإسلام» من أجود الكتب التي أنصفت الاشتراكية والإسلام معاً.
وعن الدّيمقراطية كتب كثيرون باسم الإسلام، منهم عباس محمود العقاد الذي كتب «الديمقراطية في الإسلام»، والدكتور عثمان خليل الذي كتب «الديمقراطية الإسلامية»، والدكتور عبد الحميد الأنصاريّ الذي  كتب «الشورى وأثرها في الديمقراطية«.
وكذلك أحاديث العمل وقيمته الإنسانية في عهود نهضة الطبقات العمالية، وسيادة البروليتاريا ومفاهيمها. ومن ثمّ أحاديث وكتب عن الاقتصاد الخاصّ والخصخصة في ظلّ الإسلام، وذلك في المجتمعات التي سادتها أنظمة حكم تتمثّل الأنظمة الرّأسمالية .
ولم تتوقف أحاديث العلم وقيمته في الإسلام إثر موجة العلم العاتية التي طفح بها العالم، وصارت مجالاً للتباهي والتعالي لدى الغرب على العالم الإسلاميّ، حتّى قام من فسّر القرآن تفسيراً علمياً (جوهري طنطاوي).
وها نحن اليوم في عهد تعالي الحديث عن المجتمع المدنيّ الحديث، والمناداة بالقيم الحضارية المعاصرة المتمثلة بالعقلانية والديمقراطية، نُدلي برأيٍ عن مفهوم العلمانية في الإسلام، ولا نعتقد أنّنا بذلك نخالف واقعاً، أو نتجاوز حقائقاً .
فالإسلام، وبكل الاحتمالات التي توضع في طريقه، يبقى العباءة التي تغطيّ كافة القيم المحتملة، ويبقى الإسلام هو الإسلام، مادة حضارية متجدّدة، لا تتوقف على جيل من الأجيال، ولا على رؤية من الرؤى. فهو الشّامل وهي الخاصّة، وهو الكلّي وهي الأجزاء، وهو لكلّ زمان وهي نتاج فترة من الزّمان، وهو لكلّ مكان وهي حاجة مكان من الأمكنة. فيبقى الإسلام وتذوب كلّ الظّواهر الأخرى، وتندرج الشّعارات تحت ظلّه، وتصبح إسلامية المضمون مادامت تعمل على خدمة الإنسان، لأنّ الإنسانية شعار المسلم، وكلّ حركة لا تخدم الإنسان تناهض الإسلام وتحاربه وإن ادّعت الانتماء إليه.