كللي يا سُحب
محمد حلاّق الجرف- مركز المواطنة المتساوية
(رسالة إلى أمّي في وداع ناجي، ونورمان..)
..حبيبتي أمّي
التبس عليّ الموت يا أميّ!
أنا الذي كنتُ دوماً أتجه إليك عندما تختلطُ عليّ الحياة، تاركاً قلبي يلوح براية الهزيمة، فما أنا فاعل الآن إذ اختلط الموتُ عليّ!.
يرحل الجميع، حبيباً تلو صديقة تاركين روحي وحيدة تعدّ المراثي، المراثي التي نبّهني محمود درويش يوماً بأنها «مديحٌ تأخّر عن موعده حياة كاملة» فأيقنتُ أنّ مرثية من أحبّ نفاقٌ دائم، فلم أكتب لناجي ما يستحق أن يُكتب فيه، ولا لنورمان..
(كلّلي يا سحبُ تيجان الرُبى بالحُلي..)
تأخرتْ مراثيَّ ليقين حبّي، ففي حياتهم كانوا أقلّ منّي موتاً، وفي موتهم كانوا أكثر حياة، فكيف أرثي!..
تعتمر المراثي هيئة علب الكونسروة الجاهزة: نفسُ الكلمات المستهلكة، ذاتُ المشاعر. يحتفل الأحياء بما لا يمكن الاحتفال به، يحتفلون بالموت، بموت أحبائهم. لذا كنتُ دائم الاعتذار عن الكلام، ففي حضرة صمتهم لا يليق إلاّ الصمت.
لكنّ «فقد الأحبة غربة» كما خطّ صديقي الشعراني مرة، فكيف إذا كان الفقدُ في الغربة؟، لك أن تتصوري الأمر يا أمي حين أكون وحيداً هنا وأجساد من فقدتُ بعيدة: لا عناق، لا قُبل أسابق بها التراب قبل أن ينهال عليّ وعليهم، حتّى البكاء هنا يكون متقطعاً، إذْ يتوجب عليكِ أنْ تبحثي عن عزلة، أنْ تختلقي عذراً له!.
أيّ قسوة يمليها الغياب في حضورهم الدائم، أيّ سكين يحزّون بها دموعنا!
قال لي أبي: أراكم!
أراكم تبكون..
عيناي مسمّرتان على الأفق، لكني أراكم!
أرى سوادكم ينزّ جسدي، فأنا الوحيد الذي يعلم الآن ماوراء فاصل الألم..
أنّى لنا أن نرتاح يا أبي، أنّى لي أن أبكي وأنا لم أودع من أحبّ، لم يتسنّ لي أن «أدفن سروري معهم».
(وامْلِ لي حتّى تراني في معزلِ..)
اختصرت حياتهم كلّ سوريتنا: اضطراب هويتنا، وضعف التعريف بنا..
ويختصر موتهم خساراتنا، وفقدنا، وحروبنا، وهروبنا، ولجوئنا قبل الأخير، وهل بقي من سورية سوى الحروب والخسائر؟
هل بقي منّا سوى الهرب؟
هل بقي من ثورتنا سوى الموت؟.
لا يتيح موتهم لنا غير التأمل في فجائع الفقدان، يربط مصيرنا بمصيرهم، ننظرُ إلى الموت قبل أن نموت يا أمّي.
من سنودع؟
من التّالي؟
كنت قد طلبت من الله عندما تركتُ البيت الشرقيّ أنْ تكون ساعتي قبل ساعة كلّ من أحبّ، أن أسبق الجميع..حتّى في هذه يضنّ عليّ الإله..
يقول من يعلو اسمه على الأسماء كلّها (قد اكتفيتُ ولا أقول كفاني..)
كفى يا الله، كفى..
حبيبتي أمي، اطلبي منه أن يكتفي..
(*اللوحة للفنان منير الشعراني: فقد الأحبة غربة)