مقارنة بين دساتير الرّبيع العربيّ
الإصدار الأوّل 2018/03/03
مقارنة بين دساتير الرّبيع العربيّ
محمد حلاّق الجرف-مركز المواطنة المتساوية
ورقة مقدّمة إلى ورشة (الدّستور-المرأة-الدّيمقراطيّة) التي أقامها مركز المواطنة المتساوية في برمّانا-لبنان، بتاريخ 7-8 حزيران 2014.
تَمهيد
تُحاول هذه الورقة تسليط الضّوء على السّياقات التي صيغت فيها دساتير الرّبيع العربيّ في المغرب وتونس ومصر، فبدأت بتعريف الدّستور على أنه “العقد الاجتماعي الذي يُبرم بين أفراده” وهو “القانون الأساسيّ الذي يُحدّد طبيعة الدّولة، وهو الذي يُقرّر شكل الحكم في الدّولة”. وتعرج على النقاشات والجدالات التي سبقت صياغة الدّساتير، فرأينا أنّ الموضوع الأساسيّ الذي طغى على هذه النّقاشات هو شكل الحكم، هل هو رئاسيّ أم برلمانيّ أم مختلط، وتبعاً لتوازنات القوى السّياسيّة وحجمها الرّاهن كان يتم التّركيز على شكلٍ دون آخر، فالبرلمانويون يرون أن الأهم هو تحديد صلاحيات الرّئيس درءً للانحرافات الرّئاسيّة ومنعاً لتكرار الأزمات التي أوصلت الشعوب العربيّة إلى أزماتها، فيما يرى الرّئاسويون أنّ الدّيمقراطية لا يُمكن اختصارها في الشّكل البرلمانيّ الذي من الممكن أن يؤّدي إلى استعصاءات ديمقراطيّة في الدّولة، وعموماً كان الإسلامويون يُفضّلون الشّكل البرلمانيّ لأنهم يعرفون أنهم الأقوى انتخابيّاً، فيما كان اليساريون ميّالون للشّكل الرّئاسيّ بسبب هشاشة الثّقافة السّياسيّة وضعف التّشاركيّة في المجتمعات العربيّة.
في هذه الورقة اعتبرنا أنّ المغرب استطاع أن يتجاوز الأزمة بفضل اختياره لتكتيك “التّغيير ضمن الاستمراريّة” فجاء الدّستور المغربيّ مُعبّراً عن إرادة ملكيّة عُليا إذ حافظ على مكانة الملك وصلاحياته في موازاة توسيع صلاحيات الحكومة. في صدرت الوثيقة الدّستوريّة التّونسيّة نتيجة لتّسويات مضنية بين حزب النهضة والأحزاب العلمانيّة بما فيها شريكاه في الحكومة، وهي وإنْ أكّدت على أن الإسلام هو دين الدّولة، وهو دين رئيسها كذلك، إلاّ أنّها شكّلت تطوراً مهماً على صعيد حقوق الإنسان ورفع تمثيليّة المرأة في المجالس السّياسيّة. وفي مصر شكّل الدّستور تراجعاً كبيراً حتى عن دستور 2012 الموسوم بالدّستور الإخوانيّ، وجاءت العبارات حول حقوق وحرّيات المرأة عامّة وفضفاضة وبدون تحديد، كما عانى من ثغرات دستوريّة إذ فرّق بين وزارات سياديّة وأخرى غير سياديّة، وترك الكثير من الأمور الهامّة ليحددّها رئيس الدّولة، كما لوحظ فيه تغوّل الجيش على حساب الدّولة استناداً لنظريّة الظّروف الاستثنائيّة ربّما. ولم تأتِ هذه الورقة على تحليل الدّستور السّوريّ الجديد بسبب أنّها لم تعتبره جديداً، بل هو مجرّد دستور مطابق للدّستور الدّائم، دستور 1973.
واختتمت الورقة بالقول بأن الدّساتير العربيّة الجديدة لم تستجب إلى روح الثّورات وتطلعات شعوبها، ولم تنصّ هذه الدساتير على ضمانة فعليّة لحقوق الإنسان، كما أنّها لم تخلق الشّروط اللازمة لبناء مجتمع مدنيّ حقيقيّ وشريك، بل كانت مُجرّد تسويات لتنازع القوى السّياسيّة في لحظتها الرّاهنة، دون النّظر لمستقبل الأجيال القادمة.
1.في تعريف الدّستور
الدّستور هو ذلك العقد الاجتماعيّ الذي يُبرم بين المجتمع وأفراده، والدّولة ومؤسّساتها. حيثُ يُحدّد حقوق المواطنين وحرّياتهم، ويُنظّم علاقاتهم بين بعضهم البعض من جانب، وبينهم وبين الدّولة من جانب آخر، كما يتولّى رسم حدود العلاقة بما يضمن فصل السّلطات وعدم تغوّل سلطة على سلطة. ويُشكّل (الدّستور عملاً مركّباً يُهندس المعادلة الثّلاثية المتمثّلة في السّلطة والقيم والثّروة، كما يُرتّب التّفاعلات السّياسيّة وميزان قوتها على هيئة مُقتضيات تُحدّد قواعد اللعب بين مختلف مستويات النّظام المباشرة وغير المباشرة)، وهو (القانون الأساسيّ الذي يُحدّد طبيعة الدّولة، وهو الذي يُقرّر شكل الحكم في هذه الدّولة).
2.في سياق التّدوين
إنّ قيام الرّبيع العربيّ في الدّول السّت التي عانت أنظمتها من أزمة بنيويّة بسبب محاولتها فرض التّوريث كشكل ملازم للحكم، ممّا أدّى إلى ضعف في مشروعيتها، يُؤكّد على أهميّة البناء المؤسّساتيّ للقانون والذي يُشكّل الدّستور فيه النّاظم والضّابط للآليات التي تُحكم بمقتضاها قواعد اللعبة السّياسيّة، وفي صدارتها علاقة الدّولة بالمجتمع.
في هذه الورقة المُقدّمة إلى ندوتكم، سنحاول تسليط الضّوء على أبرز إيجابيات وسلبيات هذه الدّساتير، ونحن إذ استثنينا الدّستور السّوري الجديد (2012) من هذه الدّراسة، فلأنّه جاء مُطابقاً تقريباً للدّستور الدّائم لعام 1973، وبالتّالي لايُمكن اعتباره دستوراً ناتجاً ومعبّراً عن حراك الرّبيع السّوري، كما أنّ الأستاذة (رُلا بغدادي) قد قدّمت تحليلاً وافياً له.
لم يكن النّقاش الذي سبق إصدار الدّساتير العربيّة حول أفضليّة النّظم السّياسيّة وأكثرها ديمقراطيّةً: الرّئاسيّة أم البرلمانيّة أم المُختلطة، مُجرّد نقاش أكاديميّ يعكس قناعات المشاركين فيه فقط، بل كان وراء هذا الجدل تقديرات القوى السّياسيّة الفاعلة لحجمها الانتخابيّ الرّاهن، ولحجم خصومها كذلك.
فالفريق الذي كان يُدافع عن شكل النّظام البرلمانيّ يرى في الاختيار البرلمانيّ آليّة مؤسّساتيّة ضامنة لعدم تكرار “الانحرافات” الرّئاسوية، وكذلك لعدم تكرار الانتهاكات الجسيمة في حقوق الإنسان التي كانت تحدث في ظلّ الصّلاحيات الكبيرة المُعطاة لسلطة “الحاكم الفرد” على حساب بقيّة السّلطات. فيما تركّزت حجج “الرّئاسويين” على أنّ النّظام البرلمانيّ يحمل في ثناياه مخاطر الإنزلاق من حالة الدّولة الاستبداديّة الذي نعيشه حاليّاً، إلى حالة الدّولة الفاشلة، وذلك بسبب هشاشة الثّقافة السّياسيّة وقلّة الوعي السّياسيّ وضعف الخبرة التّشاركيّة في المجتمعات العربيّة. لذا لا يجب –في رأيهم- اختصار الدّيمقراطيّة إلى صناديق الاقتراع والانتخابات البرلمانيّة، على أهميّة ذلك، ولعدم الوصول إلى حالة الاستعصاء الدّيمقراطي في العالم العربيّ. ولكنّ النّظام الرّئاسيّ يحمل مضموناً سلبيّاَ خطيراً، إذ أنّه “يُدخل إلى السّياسة عنصراً قويّاً يتمثّل في لعبة صفرية المحصّلة ذات قواعد تميل باتجاه يتمثّل في أن ينال الفائز في الانتخابات كلّ شيء، كما أنّ الحملات الرّئاسيّة تُشجّع السّياسة المُعتمدة على الشّخص، وتحجب سياسة الأحزاب المتنافسة والبرامج الحزبيّة”، فيما تُشكّل الأحزاب في الدّيمقراطيّة التّمثيليّة (البرلمانيّة) “رابطة حيويّة بين المُقترعين والحكومة، وهي في المجتمعات المنقسمة جوهريّة وحاسمة في التّعبير عن مصالح الجماعات الطّائفيّة، ويأتي ترجيح نشوب الأحزاب في أنّ كلاًّ من الرّئيس والسّلطة التّشريعيّة يستطيع ادّعاء الشّرعيّة الدّيمقراطيّة بسبب انتخابهما شعبيّاً، لكن قد يكون انتماء الرّئيس الحزبيّ مختلفاً عن انتماء أغلبيّة السّلطة التّشريعيّة الحزبيّ”.
إذاً، وبسبب الظّروف السّياسيّة التي يُعتقد في أنّها سبب الأزمات التي أدّت إلى انفجار الرّبيع العربيّ، وبسبب توازنات اللحظة الرّاهنة، فقد تحكّم عاملان في صياغة الدّساتير: الأوّل هو معالجة الاختلالات في توازن السّلطات، وخروج الحكومة من تبعيتها للرّئيس، ووضع الرّئيس أمام مسؤولياته السّياسيّة أمام البرلمان. والثّاني هو “أنسنة” تحجيم الصّلاحيات التّنفيذيّة للرّئيس وتدعيم صلاحيات الحكومة المستقلة.
3. في الدّساتير نفسها
أ. في الدّستور المغربيّ
“لم يقطع الدّستور المغربيّ الجديد مع الدّساتير السّابقة، بل اعتمد خيار التّغيير ضمن الاستمراريّة”، فحافظت الملكيّة على مكانتها المحوريّة في البناء الدّستوريّ، ووُسّع، في الموازاة، دائرة صلاحيات السّلطات الدّستوريّة الثّلاث (البرلمان، الحكومة، القضاء)، وقد ارتكز المشرّعون المغاربة في صياغتهم للدّستور على خطاب التّنصيب الملكيّ في 9/آذار/ 2011، والذي حدّد سبع مرتكزات مرجعيّة ناظمة ليس من بينها أي ناظم مُحدّد وواضح باتجاه الجندرة، أو ضمان مشاركة فاعلة وحقيقيّة للمرأة في الشأنين العام والسياسيّ، أو كفالة فعليّة لتمكين النّساء المغربيات من الحصول على حقوقهن في مواطنة كاملة، فحدّدت هذه المرتكزات الملكيّة السبعة محاور الدّستور في:
- تكريس الطّابع التّعدديّ للهوية المغربيّة الموحدّة، مُعتبراً الأمازيغيّة في صلب هذا التّعدد.
- ترسيخ دولة الحقّ والمؤسّسات، وتوسيع مجالات الحرّيات الفرديّة والجماعيّة وضمان ممارستها.
- تأكيد استقلال القضاء، وتوطين سمّو الدّستور، والمساواة أمام القانون.
- فصل السّلطات.
- تقوية دور الأحزاب السّياسيّة عبر تعميق دمقرطتها، وترشيد تعدّدها وتكاثرها. كما أحاط المعلرضة البرلمانيّة بعناية واضحة كي تقوم بدورها في التّشريع والرّقابة والمشاركة في صوغ السّياسات العموميّة وتقييمها، والأمر نفسه ينطبق على المجتمع المدنيّ.
- “تخليق الحياة العامّة”وإقامة مبدأ المسؤوليّة وقاعدة المحاسبة على صعيد ممارسة السّلطة.
- دسترة هيئة الحكامة الجيّدة، والحرّيات العامّة، وحماية حقوق الإنسان.
وعموماً، جاءت الوثيقة الدّستوريّة واضحة في “دسترتها للكثير من المبادئ والقواعد والمرتكزات، لعلّ أهمها بدأ فصل السّلطات، واعتماد الخيار الدّيمقراطيّ ثابتاً رابعاً للدّستور إلى جانب الدّين الإسلاميّ، والوحدة التّرابيّة، والملكيّة”.
إذاً، لم يتم تنظيم أو دسترة أو صياغة باب أو مادّة خاصّة بحقوق المرأة، بل ورد ذكر تعبير المواطنين والمواطنات عابراً في الفصل (154) [يتمّ تنظيم المرافق العموميّة على أساس المساواة بين المواطنين والمواطنات في الولوج إليها، والإنصاف في تغطية التّراب الوطنيّ، والاستمراريّة في أداء الخدمات]. وفي شرح مهمات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، والتي من ضمنها [ النّظر في جميع القضايا المتعلّقة بالدّفاع عن الحرّيات وحمايتها، وبضمان ممارستها الكاملة والنّهوض بها وبصيانة كرامة وحقوق وحرّيات المواطنات والمواطنين، أفراداً وجماعات].كما تمّ إنشاء (مجلس استشاري للأسرة والطفولة) مُعتبراً أنّ المرأة مشمولة فيه دون تخصيص أو تحديد.
وصحيح أنّ الدّستور المغربيّ الجديد ألغى صفة “مُقدّس” عن الملك الواردة في “الفصل 3” من دستور 1996 النّاصّة على أنّ “شخص الملك مُقدّس لا تُنتهك حُرمته” لكنّه أورد في “الفصل 52” من دستور 2011 الجديد [للملك أن يُخاطب الأمّة والبرلمان ويتلو خطابه أمام كلا المجلسين، ولا يُمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاشٍ داخلهما].
في النهاية، لم يفتح الدّستور المغربيّ الجديد الطريق نحو ملكيّة برلمانيّة كصيغة متقدّمة للحكم، ولم يضمن العبور إلى ديمقراطيّة حقيقيّة، كما أنّه يُعاني من الغموض والفراغات في العديد من بنوده، خصوصاً ما يتعلّق منها بحقوق الإنسان وحقوق المرأة على وجه الخصوص، والمساواة الكاملة للمواطنات مع المواطنين، وحماية النّساء من الاعتداءات والانتهاكات.
ب. في الدّستور التّونسيّ الجديد 2014
بعد الانتصار الكبير الذي حقّقته الثّورة التّونسيّة، أعلن رئيس الجمهوريّة المؤقّت فؤاد المبزع في 3/آذار/2011 عن انتخاب مجلس تأسيسيّ جديد لوضع دستور جديد لتونس، وهو ما شكّل خطوة متقدّمة عن التّجربتين المغربيّة التي سارت على هدى الإرادة الملكيّة في وضع التّشريع، والمصريّة التي تمّ فيها تعيين أعضاء لجنة صياغة الدّستور من قبل الحكّام العسكريين، وبانتخاب المجلس الوطنيّ التّأسيسيّ انطلقت عمليّة إعادة تأسيس الدّولة، وبناء عقد اجتماعيّ جديد يُنظّم الحكم على أسس جديدة، خصوصاً وأنّ الحكومة الانتقاليّة كانت قد اتخذت قرارات جريئة منها: التّوقيع على البروتوكول التّكميليّ لاتفاقيّة مناهضة التّعذيب، والبروتوكول التّكميليّ الأوّل للعهد الدّولي للحقوق المدنيّة والسّياسيّة، ونظام روما المتعلّق بالمحكمة الجنائيّة الدّوليّة، وكما هو واضح فإنّ الهدف من وراء خطوات الحكومة الانتقاليّة هو إعطاء الدلالة الواضحة بأنّ الثّورة التّونسيّة قامت بالأساس على احترام مبادئ حقوق الإنسان.
في أثناء نقاشات وصياغة الدّستور، ظهر التّباين واضحاً بين النّهضة من جهة، وبقيّة الأحزاب العلانيّة، بما فيها حليفاها في الحكومة من جهة أخرى، حول ثلاثة محاور أساسيّة:
يتعلّق المحور الأوّل بالأسس التي يقوم عليها نظام الحكم، وقد تركّز موضوع الاختلاف في البداية حول علاقة الدّولة بالدّين الإسلاميّ، وتمكّنت جميع الأطراف من التّوصّل في النّهاية إلى حلّ توافقيّ حول طبيعة الدّولة يقوم على المبدأ المنصوص عنه في دستور 1959، والمتمثّل في اعتبار الإسلام دين الدّولة التّونسيّة، والتّخلّي عن التّنصيص على الشّريعة الإسلاميّة كمصدر للتّشريع، وهو ما يُعتبر موقفاً وسطيّاً بين المطلبيّة الإسلاميّة والمطلبيّة العلمانيّة.
وأمّا المحور الخلافيّ الثّانيّ بين حركة النّهضة الإسلاميّة وبقيّة مكوّنات المجلس الوطنيّ التّأسيسيّ فهو يتعلّق بموضوع الحقوق والحرّيات الذي تباين بشأنها الموقف بحكم ميل التّيار المحافظ إلى تقييد بعض الحرّيات، وخاصّة حرّية التّعبير والإبداع بشرط احترام المقدّسات الدّينيّة، وهو ما رفضته الأحزاب والمنظّمات المدافعة على حقوق الإنسان، وتمّ في النهاية التخلّي عن التّقييد.
ويتعلّق المحور الخلافيّ الثّالث بطبيعة النّظام السّياسيّ، حيث دافعت حركة النّهضة عن نظام برلمانيّ صرف تكون فيه السّلطة التّنفيذيّة بيد حكومة مسؤولة أمام المجلس النّيابيّ، ويتم تعيين رئيس الجمهوريّة من البرلمان بصلاحيات محدودة جدّاً، ويقتصر دوره على تجسيد وحدة الدّولة. في المقابل تمسّكت أغلب الكتل النّيابيّة الأخرى بنمط النّظام الرّئاسيّ المُعدّل الذي يكون فيه رئيس الدّولة منتخباً من الشّعب مباشرةً، ويتقاسم السّلطات مع حكومة مسؤولة أمام البرلمان.
وتمكّنت مختلف الكتل النّيابيّة المُكوّنة للمجلس التّأسيسيّ من تجاوز أهم العقبات المتعلّقة بطبيعة النّظام السّياسيّ بتخلّي حركة النّهضة عن فكرة النّظام البرلمانيّ المحض، وقبولها مبدئيّاً بالنّظام شبه الرّئاسيّ”
إذاً لقد جاء الدّستور التّونسيّ الجديد كنتاج لتحالف عريض بين الحركة الإسلاميّة من جهة والقوى العلمانيّة من جهة أخرى, وفيما كانت الدّساتير السّابقة تعاني من هيمنة رئيس الجمهورية على السّلطة التنفيذية وسّع الدّستور الجديد مجال السّلطة التّشريعية وخصّ المعارضة بحقوق تمكّنها من ممارسة مهامها, و تمييز الأدوار بين رئيس الدّولة و رئيس الحكومة والتّنصيص على استقلاليّة القضاء و المحكمة الدّستورية.
ورغم أن الدّستور التّونسيّ يعتبر أفضل الدّساتير العربيّة فيما يتعلّق بحقوق المرأة والنّوع الاجتماعي والمساواة الكاملة في المواطنة, فقد اعتبر في الفصل 21 أنّ “المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواءٌ أمام القانون من غير تمييز”، ولكن الدّستور لم ينصّ على التزام الدّولة بذلك، ففي الفصل 34 ترد عبارة “تعمل الدّولة” وليس “تلتزم الدّولة”.
الفصل 34 “تعمل الدّولة على ضمان تمثيليّة المرأة في المجالس المُنتخبة” لكنّه عاد ليقول بالتزام الدّولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة في الفصل 46، وفي نفس الفصل تأكيد على ضمان الدّولة لتكافؤ الفرص بين الرّجل والمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها. و”تتّخذ الدولة التّدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضدّ المرأة”. وفي نقلة نوعيّة على مستوى الدّساتير العربيّة، جاء الفصل 74 ليسمح للنساء بالتّرشّح لمنصب رئيس الجمهوريّة، ولكنه عاد (في نقض للمواطنة الكاملة) باشتراط أنْ يكون دينه-ها الإسلام.
إلاّ أنّ هناك مفارقة غريبة ظهرت خارج النصّ الدّستوريّ, إذْ كافأت سعاد عبد الرحيم, المرشّحة الوحيدة في صفوف الإسلاميين, ناخبيها بعد فوزها بالانتخابات بأن أعلنت أن اتفاقية “سيداو” غير ملزمة لتونس!.
في دستور مصر 2014
“إن توقّع انصار الدّولة المدنيّة أن تؤدّي الانتخابات إلى سيطرة الإسلاميين على الجمعيّة التّأسيسيّة التي ستضع مشروع الدّستور قادهم إلى الدّعوة إلى تشكيل الجمعيّة التّأسيسيّة من ممثلين للنقابات والاتحادات و المؤسّسات و الخبراء، لا بالانتخابات, وهو ما يعني في النّهاية إحلال إرادة المجلس الأعلى للقوّات المسّلحة الذي سيعيّن هؤلاء الممثلين. و هو ما سمح للتيار الإسلاميّ بأن يظهر في مظهر المدافع عن الدّيمقراطية, ويجعل أنصار الاتجاهات المدنيّة في صورة السّاعين إلى الوصاية على الإرادة الشّعبيّة والعداء للديمقراطيّة فزاد ذلك من ضعفهم, و قلل من فرض فوزهم بالانتخابات”.
إن الدستور هو وسيلة ترمي إلى عقلنة السّلطة السّياسيّة و ضمان حرّية الأفراد, لكنّ الدّستور المصريّ الجديد 2014 مثّل تراجعاً على هذا الصّعيد حتّى عن دستور 2012 الموسوم بالدّستور الإخوانيّ: فبدءاً من الدّيباجة التي تُعدّ جزءاً لا يتجزأ من الوثيقة الدّستوريَة, بما يعني أنّ كل ما ورد فيها يُعبّر عن إرادة المُشرّع الدّستوريّ.أقول، بدءاً من هذه الدّيباجة نجد أن الدّستور خرج عن كنهه كـ ” عقد اجتماعيّ تتوافق عليه الأمّة”[11]، و عن شرطه الأساسيّ بأن ” يُعبّر عن الإرادة أو الرّوح العامّة للشّعب”[12] وذلك بإشادته بزعماء مصريين هم مصدر خلاف داخل المجتمع المصري نفسه ( كالرئيس السّادات و مصطفى النّحاس) و كلاهما اغتيل على يد جماعة الإخوان المسلمين التي تشكّل فريقاً سياسياً واسعاً في مصر, و إشارته إلى جمال عبد النّاصر بـ “الزعيم الخالد” مما جعل صياغة الدّستور هي صياغة إنشائيّة شعاراتيّة, لا صياغة قانونيّة حقوقيّة, و هذا ليس بغريب إذا عرفنا أن القائم على صياغة الوثيقة الدّستوريّة هو الشّاعر المصريّ سيّد حجاب.
هناك إذاً تراجعاً كبيراً عن دستور 2012 حتّى: تراجع عن الدّيمقراطيّة, و تعزيز هائل لسلطة رئيس الجمهوريّة و المؤسّسة العسكريّة, وهو ما أعطى انطباعاً وكأنه دستور انتقاميّ لم يتضمّن أي نصوص حول العدالة الانتقاليّة. كما أنّه قوّى سلطة الجيش على حساب الأحزاب والمجتمع المدنيّ, إذ أنّ الوضع الخاص للجيش في الدّستور يحول دون تأسيس حكومة مدنيّة حقيقيّة, فالجيش ليس دولة داخل الدّولة فقط بل هو أيضاً الفاعل الأقوى الذي يتولّى مراقبة الأمور.
جاءت الدّيباجة ضامنة في نصّها على تعريف مبادئ الشّريعة الإسلاميّة باعتبارها المصدر الرّئيس للتّشريع حيث أقرّت بأنّ المرجع في تفسيرها هو ما تضمنته مجموع أحكام المحكمة الدّستوريّة العليا في هذا الشّأن.
أتت المادّة (35) لتنصّ على المساواة وعدم التّمييز دون ذكر خاصّ للمرأة كما أنّ الدّستور الجديد صيغ بطريقة فضفاضة وعامّة لا تكفل للمرأة الحماية والحقوق الخاصّة، فهو قد صيغ في ظروف التّجاذبات السّياسيّة والايديولوجيّة ممّا جعل قضيّة المرأة لا تحظَ بأيّة أولويّة.
وفيما نصّت المادّة (207) على تشكيل مجلس أعلى للشّرطة يضمّ في عضويته أقدم ضبّاط الشّرطة ورئيس إدارة الفتوى المختص بمجلس الدّولة، إلاّ أنّه لم يضمّ في عضويته أحداً من المعنيين في حقوق الإنسان، سواءً أكانوا يمثّلون هيئات حكوميّة (المجلس القوميّ لحقوق الإنسان)، أم يُمثّلون المجتمع المدنيّ، ترسيخاً لثقافة حقوق الإنسان، لتعزيز ثقافة حقوق الإنسان وترسيخها لدى جهاز الشّرطة. وأتت المادّة (204) لتُجيز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكريّ اعتماداً على مهوم المنشآت العسكريّة الفضفاض والواسع.
وإذ التزمت الدّولة بالنصّ بضمان حقوق الفلاحين والعمّال، فإنّها استعاضت عن الالتزام بالكفالة فيما يخصّ حقوق المرأة والمواطنين، وهذا نقصٌ فاضح إذ أنّ الالتزام يُوجب الدّولة بتنظيم الأمر، فيما تقتصر الكفالة على محاولة تهيئة المناخ المناسب ووضع أطر عامّة دون إلزام الدّولة فيه.
كما منح الدّستور الجديد رئيس الجمهوريّة (بعد التّشاور) اختيار وزراء الدّفاع والدّاخليّة والخارجيّة والعدل، ممّا يعني ضمناً ضمناً التّمييز بين وزارات سياديّة وأخرى غير سياديّة، وممّا يعني أنّ الوزارات والهيئات المعنيّة بالتّنميّة وبحقوق الإنسان في مرتبة ثانيّة من حيث الأهميّة.
وأخيراً، فقد احتوى الدّستور المصريّ الجديد على عيب دستوريّ واضح، إذ ترك أموراً دستوريّة هامةّ بيد رئيس الجمهوريّة لتحديدها، وخصوصاً: طريقة انتخاب البرلمان (الشكل الفرديّ أم النّسبيّ)، وتحديد كوتا العمّال والفلاّحين والمرأة والشّباب والمسيحيين وذوي الاحتياجات الخاصّة. كما لم يُحدّد الدّستور أيهما أسبق الانتخابات الرّئاسيّة أم البرلمانيّة، وترك الأمر لرئيس الجمهوريّة كذلك.
خاتمة
ويبقى السّؤال الهام: في سياق النّقاشات والجدالات التي دارت حول (مدنيّة الدّولة وشكل السّلطة التّنفيذيّة) من جهة، وحول القضايا الثقافيّة وتعريف المواطنة ومشكلة الأقليّات وحقوق الفئات المهمّشة وفي صدارتها حق المرأة في المساواة الكاملة، من جهة أخرى، وأخيراً حول طبيعة النّظام السّياسيّ وعلاقة الدّين بالدّولة لما بعد الثّورات العربيّة. أقول، في هذا السّياق، هل استجابت دساتير الرّبيع العربيّ التي أُنجزت وطُرحت للاستفتاء في (المغرب وسورية وتونس ومصر) إلى روح الثّورات وتطلعات شعوبها؟ هل نصّت هذه الدساتير على ضمانة فعليّة لحقوق الإنسان؟ هل خلقت الشّروط اللازمة لبناء مجتمع مدنيّ حقيقيّ وشريك؟ ثمّ، هل كانت هذه الدّساتير مُعبّرة عن تخليق مفهوم المواطنة الكاملة، أم أنّها مُجرّد تسويات لتنازع القوى السّياسيّة في لحظتها الرّاهنة، دون النّظر لمستقبل الأجيال القادمة؟