هل يُمكن الانقلاب على الدّستور بطريقة دستورية؟

هل يُمكن الانقلاب على الدّستور بطريقة دستورية؟

طارق وطفة – محامي، مركز المواطنة المتساوية

 

بعد اجتماع قادة القوات المسلّحة مع قوىً سياسية، ودينية، وشبابية بتاريخ 3 يوليو/ تموز2013. وفي خطوة اعتبرها الكثيرون، وأراهم محقين، بأنها انقلاب عسكري على الحكومة الشرعية المنتخبة ديمقراطياً.، أذاع التلفزيون الرسمي في مصر بياناً، ألقاه وزير الدّفاع حينها "عبد الفتاح السيسي"، أُعلن بموجبه إنهاء رئاسة محمد مرسي وتسليم السلطة لرئيس المحكمة الدستورية العليا المستشار عدلي منصور. ووضع البيان خارطة طريق للمرحلة المقبلة من أهمّ ما جاء فيها تشكيل لجنةٍ دستوريةٍ سُميت بـ "لجنة العشرة" لمراجعة دستور 2012 الذي عُطّل مؤقتاً. وعليه أصدر الرئيس المؤقت عدلي منصور قراراً جمهورياً بتشكيل اللجنة التي تكونت من عشر أعضاءٍ من الهيئات القضائية وفق المادة 28 من الإعلان الدستوري. وبعد شهرٍ من العمل، وبتاريخ 20 أغسطس/ آب 2013، أنهت هذه اللجنة عملها بعد أن قامت بحذف مواد من الدستور وتعديل مواد أخرى.

ثمّ وفي قراره رقم 570 الصادر في 1 سبتمبر/ أيلول 2013، أعلن الرئيس المؤقت عدلي منصور عن تشكيل لجنة الخمسين، والتي تألفت من خمسين شخصية تمثّل كل أطياف المجتمع المصري، مهمتها دراسة مقترحات لجنة العشرة، وإعداد التعديلات المقترحة للدستور خلال ستين يوماً تنتهي بالاستفتاء الشعبي عليها.

سلّم رئيس لجنة الخمسين (عمرو موسى) المسودة النهائية في 3 ديسمبر/ كانون الأول 2013 لتحديد موعد استفتاء عليه، وجرى الاستفتاء الشعبي في يناير/ كانون الثّاني 2014، وصوتت أغلبية المشاركين بالقبول، وهكذا أصبح دستور 2014 نافذاً يحكم مصر.

وإذا تناولنا مواد الدستور بحسن نية، يمكننا القول أنّ السلطة التأسيسية التي وضعت دستور 2014 قد حاولت حماية بعض الأسس الديمقراطية من أية تعديلات لاحقة قد تحاول النيل منها، فنصّت في المادة 226 على أنه "في جميع الأحوال لا يجوز تعديل النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية، أو بمبادئ الحرية والمساواة، ما لم يكن التعديل متعلقاً بالمزيد من الضمانات."

ورغم ذلك جرى مؤخراً، وبناءاً على طلب رسمي قدمه 120 نائباً إلى مجلس النواب، تعديل بعض مواد الدستور، ومنها المتعلق بتجديد مدد الرئاسة لتصبح المدّة ولايتين رئاسيتين مدّة كلّ منهما 6 سنوات بعد أن كانت ولاية واحدة لمدة 4 سنوات، مع إعطاء الرئيس الحالي مادة انتقالية تتيح له الترشح بعد انتهاء فترته الحالية لدورتين جديدتين. أي أنّ هذه التعديلات تمكن السيسي من البقاء في الحكم حتى العام 2034.

فهل هذا التعديل جائزٌ دستورياً؟ أي هل بالإمكان تعديل المواد المحصنة والمتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية دون أن يشكل ذلك مخالفةً دستورية؟.

في جدوى النصّ الراسخ

خلافاً للأصل الثّابت في القانون الدستوري، والقاضي بأن القاعدة الدستورية قابلة للتعديل، درج واضعو العديد من الدساتير على تضمين دساتيرهم نصوصاً راسخة أو محصنة، حيث حرّموا تعديل بعض النصوص والمبادئ الدستورية، سيما تلك التي تتصل بالهوية الدستورية للدولة، منعاً لطمس معالم هذه الهوية وهدم بنيانها الذي شيدته السلطة التأسيسية الأصلية. ولعلّ   الأساس النظري لفكرة النصّ الدستوري الراسخ يعود لنظرية طورتها المحكمة العليا في الهند، تُعرف بنظرية "الهيكل الأساسي للدستور". وقد لخص مضمونها البروفسور كارلو فوسارو قائلاً: " كلّ ترتيبٍ دستوري يستند إلى مجموعة من المبادئ الأساسية التي لا يمكن تغييرها والتي يمكن اعتبارها جوهرية للحفاظ على الهوية الدستورية للدولة. ولعلّ هذا ما يُفسّر ميل بعض الدساتير إلى تحديد مجموعة من المبادئ الدستورية التي يُطلق عليها المبادئ أو الاحكام فوق دستورية، والتي يتمّ اعتبارها عصيةً عن التعديل، سواء من داخل الدستور نفسه، أو من خلال محاكم الدولة".

ولأنّ مفهوم الهيكل الأساسي هو مفهومٌ مبهم يصعب تحديده والاستدلال عليه بدقة، تبرز أهمية النصوص الراسخة كونها تسهم في تحديد معالمه الأساسية وترسم بوضوح ملامح الهوية الدّستورية التي قرّرت السلطة التأسيسية تبنيها.

وبغضّ النظر عن تعبير "النصوص فوق دستورية " والذي هو محل اعتراض لدى معظم فقهاء الدستور، كون الدستور هو وحدة واحدة لا تتجزأ وهو القانون الذي لا يسمو عليه نصٌّ آخر، ورغم الاعتراضات الشديدة التي أبداها دعاة الديمقراطية التقليدية على فكرة تحصين النصّ الدستوري من التعديل، بحسبان أنّ ذلك يُصادر حقّ الأمّة في تعديل عقدها الاجتماعي. إلاّ أنّه لمن اليسير أن نلاحظ أنّ النّصوص الرّاسخة أخذت في الانتشار وبكثرة، خاصّة في الدّساتير الحديثة. وأصبحت من الآليات الهامة المعتمدة لبناء الديمقراطية وترسيخها سيّما في المجتمعات التي رزحت طويلاً تحت نير الديكتاتورية. تلك التي قضت في جملة ما قضت على آليات الدفاع المجتمعية التي بإمكانها أن تحمي المبادئ الدستورية العليا وتحافظ عليها.

وبتتبّع النصوص الراسخة نجد أنّ لها عدة غايات، فمنها ما حصّن النصوص المتعلقة بشكل الدّولة، ومنها ما حصّن نوع نظام الحكم البرلماني، ومنها من حصّن العلمانية أو دين الدّولة، ومنها من حصّن النصوص المتعلقة باللغة الرّسمية، وهناك من حصّن المواد المتعلقة بحقوق الإنسان. وفي بعض الأحيان كان التحصين لفرض حالة من السّلام كأن ينصّ الدّستور على عفوٍ عامٍ عن الجرائم المرتكبة خلال فترة سابقة، وتُحصّن هذه المادة من التعديل أقلّه لفترة معينة. وعموماً يُمكننا القول أنّ الغالبية العظمى من النصوص الراسخة، وفي مختلف الدساتير التي تضمنتها، جاءت لتحصين القيم الديمقراطية العالمية وحمايتها من الانقلاب عليها.

ولكن، وفي كثيرٍ من الأوضاع، نجد أنّ الغاية من النصّ الرّاسخ قد تضيع هباءً، حيث تستطيع السلطة الحاكمة، وضمن الأطر المقرّرة دستورياً، تعديل النصّ أو المبدأ الذي منع الدّستور تعديله، مستفيدة من سوء صياغة ذلك النص،ّ أو من غياب الآليات والمؤسّسات الدّستورية التي تراقب عملية التعديل أو مضمونه.

وبالعودة إلى المادة 226 دستور مصر للعام 2014 نجد، ومن الناحية النظرية، أنّ التعديل الهادف إلى مدّ مدّة الرئاسة دون مدّة إعادة الانتخاب جائزٌ دستورياً كون المادّة 226 حصّنت من التعديل النصوص المتعلّقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية دون الفترة الرئاسية الأولى، لذلك فلا قيدَ دستوري على تعديلها. أمّا التعديل الذي انصبّ على النصّ المتعلّق بإعادة انتخاب الرئيس، فهو غير جائزٍ نظرياً مالم يكن ذلك التعديل متعلّقٌ بمزيد من الضمانات استناداً إلى نصّ المادّة 226.

أمّا من الناحية العملية فنرى أنّ تعديل المادة 140 المتعلّقة بمدد الرّئاسة، أو حتّى المواد المتعلقة بالحرية والمساواة، هو أمرٌ متاحٌ للسلطة المشتقة، شأنه شأن تعديل أيّ مادّة غير محصّنة، وذلك متى تحقّقت الشروط التي أوجبها الدستور لتعديل أحكامه ونصوصه العادية. أي أنّ واضعي الدستور المصري، وعلى اعتبار حسن النوايا، فشلوا في تحقيق غايتهم في حماية المواد التي حصنتها المادة 226 من التعديل، ويعود ذلك لعدة أسباب منها ما يتعلق بالمادة 226 نفسها، ومنها ما هو خارجٌ عنها.

أولاً- بخصوص الأسباب المرتبطة بذات المادة 226 والتي يُمكن إجمالها بالآتي:

  1. إنّ عبارة ما لم يتعلّق التعديل بالمزيد من الضمانات هي عبارة عامة، فضفاضة ولا يمكن رقابتها، لذلك فهي تُخرج النصّ من وصف الرسوخ، فالنصّ الرّاسخ هو النصّ الذي يمنع تعديله دون أن يكون ذلك المنع معلّقاً على أي شرط. لذلك لا يمكن اعتبار المادة 140، وكذلك المواد المتعلقة بالحرية والمساواة، محصّنة عن التعديل بموجب المادة 226 المذكورة.
  2. المادة 226، والتي جاءت لتحصّن موادَ أخرى متعلّقة كما ذكرنا بإعادة انتخاب الرئيس والحرية والمساوة، هي بحد ذاتها غير محصّنة، أي يمكن تعديلها، وبالتالي إلغاء أيّ تحفظّ قد يأتي لاحقاً، على إلغاء ما حمته من نصوص، ودون الدخول في أية سجالات دستورية.

 

ثانياً- بخصوص السبب الخارج عن المادة بذاتها:

 يتمثّل هذا السبب في أنه لا يوجد في الدستور، أو القانون المصري، أيّ نصّ يُخوّل أيّ جهة سلطة الرقابة على دستورية التعديلات الدستورية. هذه الرقابة التي تعدّ الآلية الوحيدة والفاعلة لحماية النصّ الراسخ ومشيئة السّلطة التأسيسية الأصلية بشكلٍ عام. لذلك فحتّى لو كانت أي مادّة من مواد الدستور محصّنةً عن التعديل، ولو بشكلٍ متقن، وجرى تعديلها، فليس هناك من آلية لردع السلطة المشتقة ووقف هذا التعديل. فالنصّ الرّاسخ هو، كغيره من نصوص الدستور، غير ذاتي التفعيل، وإنّما يحتاج الى آلية قانونية لتفعيله، وجهةً دستورية تمتلك مشروعية ممارسة الصلاحيات التي تتطلّبها هذه الآلية.

الحقيقة أنّ الرّقابة على دستورية التعديلات الدستورية هي الآلية الوحيدة التي طبقتها العديد من الأنظمة الدستورية والقانونية، ومنحت سلطة ممارستها للجهة القضائية المختصة برقابة دستورية القوانين، وبغضّ النّظر عن الجدل بين فقهاء الدستور حول هذه الرّقابة، فإنّ هذه السلطة أضحت مقرّرة في العديد من دساتير الدّول، أو أنظمتها القانونية.

وعموماً، يُمكننا القول أنّ الأساس القانوني لهذه السلطة قد يكون دستورياً أو قانونياً، أي أنّ المحكمة أقرّت لذاتها هذه السلطة، وثبتّتها، ولم ينازعها عليها أحد.

 

مواقف الدّساتير من الرقابة على دستورية التّعديلات الدّستورية

اختلفت مواقف الدّساتير من موضوع الرقابة على دستورية التعديلات الدّستورية، فأغلب الدّساتير سكتت عن الموضوع، في حين أنكرت بعض الدّساتير على محاكمها هذه السّلطة كالدّستور الهندي عبر تعديل دستوري في العام 1976. بينما أقرّت دساتير أخرى بهذه الرقابة. وهنا نميّز أيضاً بين اتجاهين من الدّساتير. الأوّل، أقرّ للمحاكم العليا أو المحكمة الدّستورية، بحسب النظام الفضائي المتبع، سلطة الرقابة على دستورية التعديلات الدّستورية من الناحية الشكلية فقط، كالدّستور التركي للعام 1982. بينما ذهب اتجاهٌ آخر إلى إعطاء المحاكم سلطة الرقابة على التعديلات من الناحية الشكلية والموضوعية، كدستور رومانيا للعام 1991، ودستور التشيك الحالي.

هنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ التجربة بينّت أنّ التوجه القاضي بإعطاء المحاكم سلطة الرقابة على التعديلات من الناحية الشكلية فقط، غير كافٍ لحماية النص الراسخ. فعلى سبيل المثال، حصّن الدستور التركي للعام 1982 نظام الحكم البرلماني من أي تعديل، ورغم ذلك تمكنت السلطة الحاكمة في تركيا مؤخراً من تعديل هذا الآمر وتبني النظام الرئاسي، بعد أن تمكنت من تحقيق الشروط الشكلية لتعديل الدّستور.

موقف القضاء المقارن من مسألة الرّقابة على دستورية التعديلات الدّستورية

 في الدّول التي سكتت دساتيرها عن هذا الموضوع تصدّى القضاء للمسألة. وهنا نرى أنّ بعض المحاكم أنكرت على نفسها هذه السلطة صراحةً، كالمجلس الدّستوري الفرنسي في العام 2003، والمحكمة الدّستورية في المجر في العام 1997، والمحكمة الدّستورية السلوفانية، وكلّ ذلك على أساس أنّ الدّستور خولّها سلطة الرقابة على دستورية القوانين فقط.

وفي موقفٍ مخالفٍ للوقف السّابق، انتزعت محاكمَ دولٍ أخرى لنفسها هذه السّلطة، وهنا أيضاً نُميّز بين موقفين:

أولاّ- محاكم ثبتّت لنفسها هذه السّلطة من حيث الشكل، كالمحكمة العليا بالولايات المتحدة الأمريكية في قضيتي هولنغسوورث ضد فرجينيا عام 1798، وقضية كولمان ضد ميلر عام 1939. وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ المحكمة العليا الأمريكية لم تُنكر على نفسها سلطة الرقابة على دستورية التعديلات الدّستورية من الناحية الموضوعية، وإنّما لم يُعرض أمامها حتّى الآن قضية تتصل بهذا الموضوع، وكذلك المحكمة الدّستورية التركية في العام 1970 والتي أبطلت تعديلاً دستورياً لمخالفته الشروط الشكلية لتعديل الدّستور، أي قبل أن يعطيها دستور 1982 هذه السلطة صراحةً.

 

ثانياً- محاكم ثبتت لنفسها هذه السّلطة من حيث الشّكل والموضوع، كالمحكمة الدّستورية الإيطالية، ففي حكمٍ أصدرته بتاريخ 29/12/1988، أعلنت أنّ سلطة تعديل الدّستور يتعيّن عليها أن تتقيّد بالمبادئ الدّستورية العليا، والتي هي بصدد اختصاصها مباشرةً، وأنّ الدّستور الإيطالي يتضمن مجموعة من المبادئ العليا لا يمكن تعديلها أو إلغاؤها، فهي بمثابة قيودٍ مطلقة على سلطة تعديل الدّستور. ثم أعلنت أنّها مختصّة بالفصل في مدى مطابقة التعديلات الدّستورية للمبادئ العليا في النّظام الدّستوري.

كما قضت المحكمة الدّستورية الألمانية بأنّ سلطة تعديل الدّستور هي سلطة فرعية من السلطة التأسيسية الأصلية، فتتقيد بالنصوص الإجرائية التي نصّ عليها الدّستور، وأنّها مسؤولة عن مراقبة احترام هذه النّصوص. وأكّدت أنّه بإمكانها التدخّل لتقرير عدم صحة بعض التعديلات الدّستورية.

وكذلك أبطلت المحكمة الدّستورية التشيكية، في العام 2009، تعديلاً دستورياً لمخالفته لمتطلبات الدّولة الدّيمقراطية المنصوص عليها في المادة 9 من الدّستور، والتي لا يجوز تعديلها.

 

وبالعودة إلى مصر، نجد أنّ دستور عام 2014 لم يعطِ للمحكمة الدّستورية سلطة الرقابة على دستورية القوانين، وكذلك نصّ قانون تشكيل المحكمة الدّستورية.

أمّا المحكمة الدّستورية المصرية فقد أعلنت، في القضية رقم 76 للعام 2007، أنّ سلطانها ينحصر في رقابة القوانين، وأنّ الدّستور لا يندرج في مفهوم القوانين التي تباشر المحكمة سلطانها عليها، مضيفةً أنّها لو فعلت تكون قد تجاوزت حدود صلاحياتها. وهكذا تكون قد أعلنت، ولو بشكل ضمني، عدم اختصاصها برقابة التعديلات الدّستورية على أساس أنّ التعديل الدّستوري متى أُقرّ يصبح جزءاً من الدّستور.

وبما أنّه لا يوجد رقيبٍ في النّظام القانوني المصري له سلطة حماية المواد التي شاءت السلطة التأسيسية الأصلية حمايتها من التعديل، لذلك ليس هناك ما سيمنع من تعديلها حتّى لو افترضنا أنّها محكمة التحصين، وهي وكما ذكرنا ليست كذلك.

 

وعليه يمكننا القول أنّ فكرة النصّ الراسخ، أو الخالد، أو المحصّن، ورغم الاعتراضات الفقهية عليها، أصبحت منتشرة في مجموعة كبيرة من الدّساتير، وهي آلية حاسمة ومفيدة لحماية الهوية الدّستورية للدولة، إضافةّ إلى الدّور الكبير الذي من الممكن أن تلعبه في حماية مبادئ الدّيمقراطية وحقوق الإنسان التي تتضمنها الدّساتير، شريطة أن يتمّ التّرسيخ بصيغة واضحة وحاسمة وغير معلقة على شروط عامة قد تجد الحكومات من خلالها مخرجاً لتفريغ الترسيخ من غايته.

من جهة ثانية، ومهما أُحكمت صياغة النصّ الراسخ قد يبقى حبراً على ورق، أو بالأحرى قد تنزعه السلطة المشتقة عن أوراق الدّستور ما لم تُعطى المحاكم الدستورية سلطة رقابة على دستورية التعديلات الدّستورية من النّاحية الشكلية والموضوعية، أو تثبتها هي لنسفها بنفسها. ولأنّ المحاكم الدّستورية في البلدان التي رزحت طويلاً تحت الديكتاتورية لا تمتلك غالباً الجرأة على انتزاع هكذا سلطة، فعلى واضعي الدّساتير في مراحل الانتقال الدّيمقراطي العمل على إعطاء المحاكم سلطة الرقابة على دستورية التعديلات الدّستورية بصريح النصّ.

وفي هذا الصدد، لابدّ من الإشارة إلى أنّ تفعيل هذه السلطة يقتضي بالضرورة ألاّ تكون السّلطة المشتقة منوطة بالشّعب. أي وبتعبيرٍ آخر، ألاّ يُقرّ التعديل الدّستوري عن طريق الاستفتاء. لأنّه، ومن الناحية العملية، نكون أمام مشيئة صاحب السّيادة التأسيسية الأصلية، وهنا لا يحقّ لأي جهة، مهما علت، رقابة الإرادة الشعبية من حيث الموضوع، وإنّما يقتصر عملها في أعلى حالاته على التأكّد من صحة إجراءات الاستفتاء. فالتبرير النظري لرقابة دستورية التعديلات الدّستورية هو ضمان احترام السلطة المشتقة لإرادة السلطة التأسيسية الأصلية، وهذا التبرير ينعدم إذا كان الشّعب هو الذي أقرّ التعديلات الدّستورية.