هن ذاكرة لن تموت أبداً.. ضحايا جريمة مجتمعية وقانونية

المحامية شروق أبو زيدان – مركز المواطنة المتساوية

"يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق". و"لكلّ شخص الحقّ في الحياة والحرية وسلامة شخصه". كلماتٌ رنّانة وجميلة نصّت عليها المادتان 1،3 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هذا الإعلان الذي صدر منذ ما يقارب الثمانية عقود، ومن البديهي أن تلتزم به كل الدّول، وأن تعمل على تطبيقه.

ممّا لا شكّ فيه أنّ حقّ الحياة مقدّس ومُصان بالقانون والاتفاقيات الدولية والأعراف، ولا يمكن لأي كان أن يسلب آخر حقه في الحياة دونما عقاب يتناسب مع هول هذا الفعل. وهنا يأتي دور القوانين التي تُسنّ وتُشرع للحفاظ على توازن المجتمعات وتحقيق العدالة للحفاظ على حقوق كلّ الأفراد كما ينبغي، فتفرض العقوبات على كل من يرتكب جرماً، وتكون هذه العقوبات شديدة وقاسية في حالة القتل وهو سلب حقّ من الحقوق الأساسية للأفراد.

الشرف عهدة في (عنق) المرأة

الشرف في اللغة هو الموضع العالي الذي يشرف على ما حوله، وشرف المرأة هو عفّتها وحصانتها حسب معجم المعاني. ومن المعروف أنّ الشرف صفة تمسّ النفس والروح والخلق، فهو يعني الكرامة، والنزاهة، والصدق، والأمانة، والمروءة، والشجاعة، والإحسان، وغيرها من القيم النبيلة التي تجتمع مع بعضها لتسمو بالإنسان وتضعه في مرتبة التقدير والتوقير، ومن المعروف أيضاً أن هذا التعريف ورد شاملاً لأنه يخصّ الإنسان أياً كان جنسه، ذكراً كان أو أنثى. ولكن مع ذلك فمن المؤسف أن المجتمع العربي يعرّف الذكر الشريف بكونه الرجل الذي يكسب قوت يومه بعرق جبينه، بينما يعرف الأنثى الشريفة بأنها المرأة التي لم تقم قط علاقات عاطفية مع الرجال. وعندما يريد أن يُقلّل من قيمة وشأن المرأة في أي موقف كان فإنه ينعتها بـ (قليلة الشرف)، وهنا تكمن الطامة الكبرى إذ لا يعيب الرجال أي تصرف مهما يكن، بينما يرتبط شرفهم جميعاً في هذه الناحية بإناثهم، نعم إناثهم اللواتي حملن هذا العبء نتيجة نظرة مجتمعية دونية للمرأة وتقديس للرّجل.

ومن هنا أعطى الرجل نفسه الحق ليقتص من أي أنثى من إناثه إذا لوثت شرفها -بالمفهوم السابق- الذي هو في النهاية شرفه وشرف عائلته. وشدّ القانون على يده عندما أعطاه عذراً محلاً أو مخفّفاً في حال ارتكابه لجريمة القتل بدافع الشرف، لينجو من أشد العقوبات ومن الإنصاف الذي يجب أن يحققه القانون في المجتمع، ليعيش حياته وكأن شيئاً لم يكن، وكأن يديه لم تتلطخ بدم أعزّ الناس وأقربهم إليه، فيبدأ حياته الجديدة، بعد (غسل عاره) مرتاحاً هانئ البال، وتحت التهليل والتبريكات من الجميع حوله لأنه اتخذ هذا الموقف.

وتحت هذا المسمّى، وبسبب هذا العذر الذي منح أو كان ممنوحاً للرجل إلى ما قبل بضعة أيام، فقدت الكثير من الفتيات والزوجات والأمهات أرواحهن هباء، وخرج الرّجال للحياة دونما ضمير معذب أو مساءلة قانونية تُذكر.

ذاكرة من بلدي

وتعتبر سورية من الدّول التي تسجل عدداً كبيراً في جرائم الشرف، في مختلف مناطقها على الرغم من اختلاف عادات هذه المناطق وتقاليدها وأولوياتها. وكأي منطقة من المناطق السورية فقد حظيت السويداء بعدد لا يستهان به من هذه الجرائم الشنيعة، على مدار السنوات الطويلة الماضية، بل على مدار عقود من الزمن، ولم يشفع لهذه المحافظة انفتاحها المجتمعي والثقافي والتعليمي، إذ كانت ولا تزال تُرتكب فيها هذه الفظاعة حتى عامنا هذا. حيث سُجلت حالتان من هذه الجرائم في العام الحالي، على الرغم من أننا لم نتجاوز فيه سوى شهرين ونيف، واحدة على يد أخ الفتاة الذي كان ممتعضاً من سلوك أخته الذي لا يجده مناسباً وكان قد هددها بالقتل أكثر من مرة قبل أن ينفذ ذلك فعلاً ويتستر عليه أبوه بعد أن لاذ هو بالفرار وبفعلته. وست حالات أُخًر في العام الفائت، والكثير غيرها في كل عام سابق.

ومن المضحك المبكي أن نسمع أن أباً قتل ابنته التي في عمر الورد لمجرد أنها تأخرت عن دوامها الدراسي يوماً واحداً وهو لا يعلم بذلك، ولم يعلم أين كانت، وحتى أنه لم يترك لها الفرصة لتخبره بأسبابها لهذا التأخر البسيط، ليأتي هو إلى باب المدرسة ويلقيها صريعة ببندقيته التي جاء بها من منزله عندما سمع من إدارة المدرسة خبر تأخر ابنته، وكثيرات غيرهن لقين المصير ذاته لأسباب أبسط أو أكبر.

فنحن منذ زمن طويل نسمع بهؤلاء الفتيات اللاتي ذهبن (خطيفة) مع شباب من دين آخر ليتزوجن خارج المحافظة، ويصبح اسمها (مشرعة) "وهي من تزوجت بشاب من دين غير دينها"، ويصبح أهلها موسومون بهذه الفضيحة المجتمعية الكبرى، وقد يلقين حتفهن في محفل عائلي في حال ما إذا عدن مطلقات إلى بيت الأهل.

إلى متى؟

على الرّغم من كل التطور الذي يشهده مجتمعنا، والانفتاح الفكري والثقافي والمجتمعي، والتغير الديمغرافي الذي شهدته سورية في سنوات الحرب الأخيرة، والذي فرض اختلاطاً مجتمعياً ودينياً لم يكن بهذا الشكل قبلاً. فإن المجتمع المحافظ لم يتقبل بعد فكرة الزواج المختلط، وحتى أنه لم يتقبل بعدُ فكرة أن تكون للفتيات حرية الاختيار المطلق سواء في حياتها الشخصية أو الجنسية أو العاطفية. وظلّ القانون إلى ما قبل أيام قليلة يقف إلى جانب الجاني الذي يمكنه أن يقتل أخته أو زوجته بحجة حفاظه على شرفه الذي هدرته بسلوكها الشخصي المحض، وعلى الرغم من كل الحركات والحملات التي دعت لإلغاء المادة 548 من قانون العقوبات السوري والتي تعطي هذا الجاني عذراً مخففاً، إضافة لما قامت به أغلب منظمات المجتمع المدني والمراكز الحقوقية من عمل دؤوب وجاد وجهد حثيث، إلاّ أنّ هذه الحركات والجهود كلها باءت بالفشل إلى ما قبل عدة أيام، حين صدر القانون رقم 2 للعام 2020 والذي ألغى هذه المادة تماماً. ليتركنا هذا أمام معضلة تحقيق العدالة لمن مُتن دونما ذنب، للاتي قُتلن بدم بارد يحمله أقرب الناس لهن، وداس عليهن مجتمع بعاداته البالية المهترئة، وبقوانينه التي تبرر هذا العمل الخاطئ.

أنتن دين في رقبة مجتمعكن

لا يمكننا اليوم القصاص من كل مرتكب لهذا الجرم بالأمس، فقد كان يتظلل بعباءة قانونه ومجتمعه، لكننا الآن، وبفضلهن، نمتلك سلاحاً قانونياً كي لا تتكرّر الجريمة على مرأى ومسمع الجميع، ودونما أن يكون لحقهن بالحياة الكلمة الفصل بالتدخل والقصاص، إضافة لضرورة تدخلنا لمساعدة الكثيرات اللاتي لازلن ترزحن تحت نير العادات والتقاليد الرثة.

فلترقدن في سلام فبعد الآن لن تزوركن جديدة تحمل نفس الذنب والخطيئة دون أن يفلت الجاني من العقاب.

فلترقدن في سلام فأنتن لستن مخطئات ولا مذنبات، أنتن كنتن ضحايا مجتمع وقانون، أٌلغي اليوم فصل قانوني آخر من فصولهما المعتمة القبلية.