واجب المشاغبة دائماً وأبداً

واجب المشاغبة دائماً وأبداً

(نُشر في مجلة حنطة في 16/04/2016)

سمير العيطة

قبل الربيع العربيّ، وفي كانون الأوّل عام (2009)، كتبتُ افتتاحيّةً «للوموند ديبلوماتيك» النشرة العربيّة تحت عنوان «واجب المشاغبة وعدم الاحترام». بُنيَت تلك الافتتاحيّة على مشاركةٍ في مؤتمر «فاس» لحوار الحضارات وعلى عودةٍ لروحيّة مؤسِّس الصحيفة الفرنسيّة الشهيرة، كلود جوليان، تيمّناً بعنوان كتابه «واجب عدم الاحترام» وتبنّياً شخصياً لهذه الروحيّة.

أراد «جوليان» أن تكون صحيفته الشهريّة «ملتزمةً، واقفةً شامخة الرأس دون مساومةٍ ونزيهة». لكنّه رأى معضلةً في التوفيق بين الفعاليّة والتأمّل، الضروريّين لهذه الاستقلاليّة. فالبحثُ عن الفعاليّة يأخذ إلى أجواء السلطة؛ «سلطة الدولة وسلطة الأحزاب وسلطة المال وسلطة من يوجّه ويقرّر». «والسلطة تسحُر المثقّفين كما يجذب العسل الذباب»، وهي تعرِف كيف تتلاعب بالمثقّفين والصحفيّين وتستخدمهم. أمّا التأمّل فهو «الواجب النقديُّ» لكلِّ من «أراد أن يشاهد، ويحلّل، ويفهم، ويفسّر»، انطلاقاً من الواقع، على الرغم من «الحقائق» والتحليلات السائدة. أي بالضبط عبر الفضول وحبِّ المشاغبة وعدم الاحترام.

صلب واجب المشاغبة هذا يكمُن في صحافة الاستقصاء. «مهنة البحث عن المتاعب هذه» التي تتطلّب حساباً «للأخطار»، إذ إنّها تهدفُ إلى «كشف المستور وتوثيق المشكلة». وما هو مستورٌ يمكن أن يكون قد «اختفى خلف ركامٍ من الحقائق والظروف التي أصبح من الصعب فهمها» أو وراء محرّماتٍ، كما كُتب في دليلٍ لتدريب «إعلاميّين من أجل صحافةٍ استقصائيّةٍ عربيّة» (أريج). فما الذي يستحقُّ أن يموت الصحفيّ من أجله؟ سوى ذلك الهدف الذاتيّ غير الموضوعيّ الذي يتمثّل برغبةٍ في تغيير العالم وإصلاحه. «فمن المسؤوليّة أن نعرف الحقيقة كي يمكننا تغيير العالم».

في تلك الأيّام، كانت المخاطرة الكبرى للصحافة تكمُن في مساءلة السلطة في البلدان العربيّة وفضح ممارساتها. ذلك الجسم الذي نصَّب نفسه، في الملكيّات كما في الجمهوريّات التي أضحت توريثيّة، فوق الدولة، وفوق الدساتير والقوانين، يغيّرها ويفسّرها حسب أهوائه. بل كان الحساب العسير يأتي لكلِّ من تجرّأ على التهكّم والسخرية من هذه السلطة، أقلّه المنفى. رغم ذلك، بقيت بعض النوافذ «للمشاغبة»، في لبنان أو حتّى في مصر، ولاسيّما من خلال التنافس بين أرباب السلطة في البلدان العربيّة المختلفة. هكذا حتّى تأتي المصالحة بين هؤلاء الأرباب ومنفى جديد «للمشاغب».

وكانت «المشاغبة» الأكبر تكمن لدى الجمهور العربيّ الذي عوّده غياب الحريّة على التشكيك في كلِّ شيءٍ، وعلى البحث عن الحقيقة مقارناً مصادر متعدّدة المرجعيّات. ثمّ جاء «الربيعُ العربيّ» وأضحت «المشاغبة» في الشارع والساحات. لم تعُد حكراً على صحفيّين قليلي العدد، تجرّؤوا على رفع الرأس دون مساومة، بل أصبحت هذه «المشاغبة» بمعناها السلميّ والنبيل «انتفاضةً» واسعة الانتشار لتحقيق تغيير العالم وإصلاحه. على الأقلِّ عالمنا العربيّ. فانخرط كثيرون في التوثيق والاستقصاء لفضح الممارسات الأمنيّة والسياسيّة وإبراز التطلّع الواسع إلى التغيير. وغالباً ما كانت السخرية والنكتة سلاحهم الأوثق لتثبيت صورة الواقع السائر إلى تخطّي ذاته. وكانت حقّاً تجربةً مثيرةً ومحفّزة، إذ حدث التغيير في تونس ومصر. إلاّ أنّ التغيير أخذ مساراتٍ متعدّدةً، ودخل هو ذاته في خضمِّ «فوضى من الحقائق والظروف»؛ فوضى البحث عن توازن قوىً سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ لتونس ومصرَ ما بعد التغيير، وفوضى القمع ومقاومته في اليمن والبحرين وسوريا، ومن ثمَّ فوضى بروز الطائفيّة والتطرّف والإرهاب انتهاءً بالحرب والشرذمة.

تضاعفت أعداد الصحفيّين بشكلٍ كبير لتغطية كلِّ هذه التقلّبات الكبرى وانتشار مجرياتها في مختلف أنحاء البلدان. يوثّقون الأحداث والقمع والحرب، وآثار التعذيب والقصف، وخلافات السياسيّين وأروقة المؤتمرات والاجتماعات… بإثارةٍ هي إثارة الحدث وقسوته البشريّة والفكريّة.  وتطوّرت وسائل الإعلام بشكلٍ كبيرٍ  مع هذه التقلّبات، ليس فقط لأنّ محطّات التلفزّة ووسائل التواصل الاجتماعيّ الرقميّة شغلت الناس صباح مساء، بل لأن السباق نحو المهنيّة في العرض والمشهديّة لم يعد حكراً على المؤسّسات المتخصّصة، بل أضحى سبيل داعش لكسب وتجييش المناصرين وزرع الرهبة في قلوب الخصوم والعالم أجمع.

لكن ماذا عن «واجب المشاغبة» في زمن الفوضى والحروب الذي ابتعد في واقعه ومشهديّته عن الإنسانيّة؟ وأين يكمن الالتزام والاستقلال عن السلطة والواجب النقديّ في كشف المستور؟

بالطبع يكمُن الالتزام في تبنّي قضايا المواطنين والبشر  وحقوقهم، وتوثيق ما يتعرّضون له. لكنّ الاستقلاليّة صعبةٌ في زمن الحرب والفوضى، لأنّ الهوامش غالباً ما تكون ضعيفةً، حتّى أضعف أحياناً من زمن الاستبداد، ولأنّ المشهديّة تُستخدم في التحريض، ولأنّ الناسَ منقسمون على أنفسهم، وفَقَدَ أغلبيّتهم حسّه المشكّك، وبات الصحفيُّ الذي لا يتبنّى قضيّة طرفٍ لا يستطيع حتّى التواجد ضمن هذا الطرف، ولأنّ المعلومة التي تخرج بشقّ الأنفس خارج الحصار يتمُّ استخدامها لأغراضٍ تخصُّ من ينشرها وليس من يحصل عليها، ولأنّ الواجب النقديَّ في فضح المستور وتوثيق المشكلة مخاطرةٌ قد تكون مجانيّةً، لأنّ بين الصحفيّ المستقصي والجمهور الأوسع عالماً كبيراً من التلاعب والمصالح والصراعات قد يضيع معناها… بل قد يغيّبها وحسب. في حين أنّ الالتزام بما تبحث عنه وسائلُ الإعلام الكبرى الواسعة النفوذ، من مشهدٍ أو من معنى مثيرٍ، يحتوي فعاليّةً أكبر.

والتساؤل حول ما يستحقُّ أن يموت الصحفيُّ من أجله يأخذ معانيَ مختلِفةً في زمن الحرب والثورات عنه في زمن السلم. مثله مثل معاني تغيير العالم إلى الأفضل. فهل تغيير العالم انتصار طرفٍ على طرف أم أنّه وقف الحرب والمعاناة؟ وهل انتصار «الثورة» هو انتصار «الثوّار» إذا جنحوا للتطرّف؟

دفع صحفيّون كثر حياتهم فقط من أجل تزويدنا بالمعلومة عمّا يجري في عالمٍ خرج من عقاله. تحيّة إجلال لهم جميعاً. لكنّ التحيّة الأكثر إجلالاً هي لأولئك الذين شاغبوا حتّى في زمن الحرب والشرذمة وخاطروا بحياتهم كي يبقوا لنا كبشرٍ قدرة التشكيك والمساءلة حتّى لآلامنا إلى أن ينبثق فجر عالمٍ أكثر إنسانيّة.